بلى، المخزن ذكي بل ماكر

في كل مرة تقع الفواجع في بلدنا أو الكوارث، تتعالى أصوات الأحرار من الشباب تطالب السلطات بإعلان الحداد أو إطلاق حملات وطنية للتضامن مع الأسر المجروحة وذوي المصابين، وفي كل مرة تخيب آمال الأحرار في رموز دولتهم ومسؤوليهم الحكوميين.
كثير من الشباب يستخلص من هذا التجاهل غباء في سلوك المخزن، خاصة إذا تعدى التجاهل بأصوات المتضامنين إلى إطلاق العنان لأجهزة إعلامه لكي تستمر في عرض الحفلات وتقديم السهرات والأفلام المُبلّدة... في نفس الوقت الذي تتقطع فيه أكباد المكلومين ألمًا على مُصابهم وما لحق بهم من بلاء.
هل حقا يؤشر هذا السلوك إلى غباء المخزن؟
دعونا نقرر أولا أن من يُعاند مبادرات الشباب ليس أعمى ولا أصم، فهو يستمع إلى النداءات والأصوات الداعية للحداد والتضامن وفي كل مرة يُعبر عن عكس ما يطلبه الرأي العام.
دعونا نقرر ثانيا أن هذا التعامل يتكرر باستمرار، فهو إذن قرار غير عشوائي وإنما هو تعبير عقلاني عن سلوك متأصل في سياسية المخزن التي لها هدف استراتيجي، وهو تأبيد المنظومة المخزنية وبالضّمن مقاومة كل إرادة جماعية تروم عكس ذلك.
ما هي آثار هذا السلوك؟
تصوروا معي إحساسَ أُمّ فقدت فلذة كبدها في حادث مثلا، وفي نفس اليوم الذي يُخيم في دارها الألم والحزن، تحتفل جارتها بزواج بنتها وتشهر فرحتها في جوارها. بعد الفواجع والأفراح سيتكرس بين الجارتين الحقد والغل الذي سيتركه استهتار الثانية بمشاعر الأولى. هل يتصور أحد أن تغفر الأم التي كانت مكلومة لجارتها التي كانت مبتهجة ! هل يتصور أحد أن تحزن الأولى إذا أصيبت الثانية بمكروه ! أيتصور أحد أن تجمع الجارتان في عمل متضامن لصالح ثالثة !
هذه فقط صورة مصغرة لحال هذه الأمة، التي عندما تُصاب منطقة فيها بكارثة تُدفع المناطق الأخرى دفعا إلى التعبير عن اللامبالاة وكأن بعضها يشمت في بعض، فلا تجتمع لهذه الأمة كلمة ولا يُشفى ما في الصدور من غلّ بعضهم على بعض. وبذلك تستمر حالة الشتات في القلوب والإرادات والمشاريع التحريرية.
وهذه الآثار تتعدى الأفراد إلى الجماعات والتنظيمات، وهو سلاح فعال لاحتواء المعارضين أو كسر عزائمهم وإصابتهم بالإحباط اتجاه الشعب المراد العمل معه وفيه.
يحكي جون واتربوري في كتابه "أمير المؤمنين" كيف ظن الكاتب أن الشعب المغربي سيخرج للتظاهر بعد إعلان اختفاء المهدي بنبركة وقتله في فرنسا سنة 1965، وكيف خرج ليستقصي في أحياء الرباط بعدما سمع صخبا وأناشيد جماهيرية وظنها انفجارا وشيكا وإذا به يفاجأ لكون مصدر الصخب هو ملعب الرباط الذي كانت تجري فيه مباراة في كرة القدم، وختم توطئة مؤلفه بهذه الخلاصة المفتوحة على كثير من التأويلات المتناقضة:  »إن لهذه القصة مغزى وحيدا، مفاده أن ما يحدث بالمغرب في مستوى الواقع، لا علاقة له مع ما يُنتظر وفق أي منطق« [1]
هذا التنظيم السياسي أو النقابي الذي يفقد زعمائه تِباعا، ثم لا يتحرك الشعب ولا يخرج من سلبيته، كيف سيستمر في الدفاع عن مصالح شعبٍ هذه أوصافه؟ ستكون هذه بعض الإعتراضات التي ستتحول مع الوقت، من مجرد عتاب إلى الإقرار بأن هذا الشعب لا يستحق أكثر مما هو فيه. ثم ينخرط هذا التنظيم في اللعبة ويربح الفرعون مُحبطا جديدا يتحول مع الإغراءات إلى ساحر يَقلب الحقائق.
الحل في قلب السحر على الساحر
كيف نقنع الأمة المجروحة أن سبب جراحها هو الإستبداد؟ كيف نفهمها أن الاستبداد هو من يرفض أن يَعُمّ التضامن وتشيع المواساة بين أفرادها وجماعاتها؟ كيف نُريها أنه هو كذلك من يلهو ويلعب على جراحها؟ كيف تُوجّه إلى التصالح مع ذاتها لأن المخدَّرين، بسحر المخزن، من أبناءها هم كذلك ضحايا وليسوا شامتين. فلا تحسبوا الطير المذبوح يرقص من شدة الفرح !
وهنا تكمن فُتُوَتكم أيها الأحرار، أيها الشباب الأقوياء الأمناء.
أنتم عصا موسى التي لم تزل ... تلقف ما يأفك الساحرون.


[1]  جون واتربوري، أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية المغربية، 2013، ص21.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟