الغضب الرشيد

يعَرف أهل الاختصاص الحكامة : بالحكم الرشيد الذي تتوفر فيه ثلاث معايير، سمو القانون، التشاركية في التدبير، الشفافية والمحاسبة. أمامنا النظام المغربي، وعندنا مؤشرات واضحة وفاضحة لنقيس مقدار الرشد في الحكم.

الدستور أعلى نص قانوني، هل تسمو مقتضياته على تعليمات الملك؟ أشك في ذلك، تأملوا في آخر نازلة سياسية وهي المتعلقة "بتعليق نشاطات" وزير الرياضة في حكومة دستور 2011.
التشاركية أصلها فصلٌ للسلط، وإشراكٌ للتنظيمات في اتخاذ القرار. نعم لنا في المغرب تشاركية، لكن ليس في صناعة القرار وإنما في تنفيذ التعليمات. مرة أخرى نعود لنازلة أوزين، ونتسائل هل تم إشراك رئيس الحكومة في اتخاذ قرار تعليق نشاطات وزير في فريقه الحكومي؟ أشك في ذلك، لأن يوما واحدا قبل القرار وفي داخل مجلس الحكومة الأسبوعي أعلن بنكيران عن فتح تحقيق وهون من أمر الفضيحة.
حزب الوزير المعَلق، سبق وأن هدد أمينه العام العنصر بالانسحاب من الحكومة إذا أقيل أوزين، لكن فور صدور خبر التعليق الملكي سيُفتح المجال لإشراك العنصر في تنزيل القرار وإلغاء ندوة صحفية كانت مقررة سلفا للدفاع عن وزير في حزب الحركة الشعبية.. ثم يُكذّب نفسه.
الشفافية والمحاسبة، هذه نحن متقدمون فيها بخطوات.. إلى الوراء، فعندنا مجلسٌ أعلى للحسابات يُصدر كل عام غسيل العبث في أموال الشعب. وهذا نوع من الشفافية جيد رغم أن المجلس الأعلى للحسابات لا ينشر غسيل يورط خدام الأعتاب إلى حين يفكرون، مجرد التفكير في عض يد المخزن فيتم فضحهم على رؤوس الأشهاد. مثال ذلك ما حصل لقيادي نقابي صدر ضده تقرير المفتشية العامة للمالية منذ 2009 لكنه لم يعتقل حتى يوم 29 أكتوبر 2014. ألا يبعث هذا على الشك في أن السبب الحقيقي هو أن نقابته تشارك في إضراب وطني في نفس اليوم.
الذين تصدر في حقهم تقارير سوداء لا يحاسبهم أحد. وأعرف منهم واحدا يقف على عرش أموال الأعمال الاجتماعية، وهو يفتخر أن أوراق تقرير مجلس الحسابات بعد افتحاص عرشه في 2009 تعد بالمئات.. لكنها لم تنشر، ولم يحاسب، ولم ينتزع منه الريع، لكنه لا يزال من المدافعين بشدة عن حقوق العمال !
أشياء كهذه تُغضب من به وما به إحساس، لكن الشعب لا يغضب، لا يتركوه يغضب، فكل من حوله، ما حوله يقول له لا تغضب، لكنه مع ذلك يأكل غضبَه ويقاطع السياسة إلى حين يشبع صبرا، فينفجر.
لكن الملك يغضب، ويكرس الإعلام الغضبات الملكية منذ 1999 بشكل يبعث على التأمل. فقد أحصيت في مقال واحد 82 مرة ذكر فيها صاحب المقال كلمة "غضبة ملكية". حيث غضب الملك :
- بعد فضيحة ملعب الرباط التي تابعها العالم بأسره؛
- أثناء تفقده لسير الأشغال في مشاريع أطلقها في مارس من العام الماضي بمدينة فاس؛
- على وزير الداخلية ووالي ولاية جهة فاس المفروض فيه تتبع المشاريع؛
- بسبب تحليق مروحية إسبانية؛
- على عدد كبير من المسؤولين بالحسيمة؛
- على مسؤولي طنجة بسبب الفوضى العارمة في كل شيء وتحول شوارعها وأرصفتها إلى حفر خنادق؛
- على مسؤولي المبادرة الوطنية بمراكش؛
- على حارسه الشخصي؛
- على والي ولاية أمن البيضاء؛
- على مسؤولي بني ملال لأن الملك عندما زارها اكتشف أنها ليست مدينة ولكن قرية كبيرة؛
- ....
أعفيكم من البقية لأن اللائحة طويلة. لكنني أتسائل معكم : هل يجب أن يتحرك الملك بفريق يضم الآلاف، من المرافقين والمخبرين والمسؤولين والصحافيين، لكي يكتشف أن بني ملال قرية كبيرة؟
أليست التشاركية تقتضي أن بين الملك وقرية بني ملال أجهزة ومؤسسات، إدارية ومنتخبة ومعينة، تأكل من مال الشعب الملايين لكنها عاجزة عن اكتشاف ما لاحظه الملك في زيارة واحدة؟
غضبات الملك يتم تسويقها بعناية لكنها استراتيجية دونها مخاطر عديدة إلى جانب ما تقدمه من إيجابيات يدغدغ بها المخزن المزاج الشعبي من قبيل :
- غياب النخبة التي "تساعد" الملك في الدفع بالبلاد إلى الأمام؛
- حب الملك لشعبه واهتمامه بمشاكله؛
- بدون الملك يتقهقر الأمر أكثر؛
- وهي كفيلة بعلاج "الإحتمالات الممكنة لغضب الشعب". لكنها تمثل تهديدات من قبيل :
كثرة الغضبات تنبؤ أن البلاد في أزمة عميقة؛
- أن المؤسسات الوسيطة غير موجودة، وبعد نهاية الصبر سيكتشف الشعب أن الحل فقط في الثورة على الجميع؛
- أن الملك الذي يغضبه محيطه القريب، إنما ينفقون، بفعلهم هذا، من شرعيته؛
- وكذلك الذي يتموقعون باسمه – علم أم لم يعلم – يضربون في مصداقية الخطابات والشعارات الملكية. وهنا أعطي مثالا وبه أختم : تناقلت مصادر إعلامية غربية خبرا، لم يكذبه الديوان الملكي، مفاده أن القمة العالمية الخامسة لريادة الأعمال المنعقدة بمراكش يومي 20 و21 نونبر 2014 كلفت خزينة الدولة سبع 7 ملايين دولار لفائدة الشركة الأجنبية المنظمة للمنتدى، ويذكر الخبر أن وزير الاقتصاد رفض توقيع الاعتمادات المالية لأن الصفقة منحت بدون طلب عروض، وعندها تدخل وزير الخارجية بحجة أنه لا يُقبل أي تأخير في تنظيم قمة يريدها الملك، مما دفع بنكيران إلى التوقيع على الاعتماد بدلا عن وزيره في المالية.
وجلس مزوار مكان المرحوم باها. هذه فقط مصادفة !
     

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟