قطاع الطاقة بين الأزمة وفقدان المبادرة


مع بداية سنة 1963 أسس المكتب الوطني للكهرباء كمؤسسة عمومية ذات طابع صناعي وتجاري من خلاله احتكرت الدولة إنتاج ونقل الطاقة الكهربائية؛ ويتم توزيع الكهرباء من طرف المكتب الوطني للكهرباء والمجالس الجماعية من خلال وكالات التوزيع المستحدثة بمرسوم 1964.

1997 بداية التحول
في سنة 1997 وبعد انتهاء المكتب الوطني للكهرباء من تشييد معمل الجرف الأصفر بالجديدة الذي جاء ليسد النقص الحاصل في احتياج المواطنين من الطاقة الكهربائية يتذكره المغاربة جيدا لكون الانقطاع الكهربائي كان يتكرر في اليوم الواحد عدة مرات وعبر مدد طويلة، كانت القدرة الأولية للمعمل ستصل 35 في المائة من الاحتياج الوطني، نسبة تضع المغرب على مقربة من الاكتفاء الذاتي إذا أضفنا إليها نسبة المعامل التقليدية حرارية كانت أو مائية أو التي تعمل بالغاز في الشمال والجنوب.
في ذات السنة سيسلم المشروع في طابق من ذهب للأجنبي A.B.B/C.M.S في إطار منح الامتياز لاستغلاله لمدة ثلاثين سنة مع التعهد بشراء كل المنتج من الطاقة بثمن باهظ مقارنة مع كلفة الإنتاج، أضف إلى ذلك أن الشركتان سارعتا في بناء الوحدتان الإنتاجيتان الثالثة والرابعة لتصل القوة إلى 1300 ميكاواط وهي تمثل 70 في المائة من الاحتياج الوطني وبهذه الخطة - الذكية -  كسرت الدولة احتكارها لإنتاج الكهرباء، ورهنت اقتصادها لثلاثين سنة.
في نفس السنة سيصادق مجلس مدينة الدار البيضاء على منح شركة ليونيز الفرنسية - ليديك بعد ذلك -  عقدة التدبير المفوض لخدمات توزيع الماء والكهرباء والتطهير في البيضاء والمحمدية، وبذلك ستبدأ دولتنا الذكية في التخلص من احتكارها لتوزيع الكهرباء لتتوالى منح التدبير المفوض لكل من شركة ريضال بالرباط والنواحي، ثم أمانديس بالشمال، والبقية تأتي.
تأتي هذه الإجراءات في سياق دبر منذ سنوات لخوصصة القطاع عبر مراحل وهي المحددة بشكل عام في قانون المالية لسنة 2006 الذي يقرر بأن يتحول المكتب الوطني للكهرباء لشركة مساهمة بعد إحداث الوكالة الوطنية لتقنين القطاع، وتحرير توزيع الكهرباء بدءا من الكهرباء ذات الجهد العالي ثم المتوسط ثم المنخفض، أما الوكالات الجماعية التي لم تدخل إطار التدبير المفوض بعد، فيبدو أنها ستشكل فيما بينها تجمعا جهويا لإثارة المستثمرين وإغرائهم خاصة أن تجربة الدار البيضاء فتحت شهية الأجانب لهذا القطاع الحيوي.
الانعكاسات الاجتماعية:
قبل 97 كان عمال الطاقة يحسدون على مجموعة من الامتيازات الاجتماعية حرمت منها بعض القطاعات الأخرى، ولعل الشهرة أخذها القطاع بأملاكه الاجتماعية المعدة للاصطياف والنزهة أو بمصحاته الاجتماعية الموجودة في المدن المغربية الكبرى.
لكن غير المشهور هو حجم الاختلاسات التي كشف بعضها في السنوات الأخيرة، وهي شاهدة على التمويل الضخم الذي كان يتصرف فيه الزعماء النقابيون بدون رقيب ولا حسيب، وما يراه الناس كامتيازات اجتماعية هي في الأصل فضول من الأموال المنتزعة من جيوب شغيلة الطاقة وصناديقها الاجتماعية كالتقاعد والأعمال الاجتماعية ...
وبسبب إفلاس تلك الصناديق قررت الدولة إحالتها على أنظمة خارجية كالنظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
استغلت نقابة القطاع هذه الملفات لتعلن عن إضراب وطني يوم 26 أبريل 2005، ولقد نجح الإضراب فعلا ليس بسبب التعبئة النقابية ولكن لتدمر العمال من ملف الترقية الذي جمد العمال في سلالمهم مدة طويلة، ولئن خرجت نقابة الاتحاد المغربي للشغل منتصرة بعد الإضراب فإن الإدارة سهلة الأمر لخروج نقابة يسارية كسرت إنفراد الجامعة الوطنية لعمال الطاقة بهذا القطاع منذ نشأة العمل النقابي بالمغرب، لكن المفاجئة هي إعلان الجامعة بعد مدة قليلة من نجاح الإضراب وصعود رصيدها النضالي أنها فقدت المبادرة، فبعد اجتماع لمكتبها الوطني بتاريخ 02/03/2006 خرجت على العمال ببلاغ يعلن أن الجامعة بعد سوء تدبيرها للملف الاجتماعي في فترة ما بعد الإضراب وقعت في مشاكل ذاتية وأخرى موضوعية أفضت إلى" فقدان زمام المبادرة " . قبل هذا الاعتراف اجتهدت النقابة في وصف الأزمة الاجتماعية التي يتخبط فيها القطاع، وردت ذلك لأسباب لا طائل من تكرارها، لكن الخلاصة هي شبيهة لما تعرض له قطاع التكوين المهني بشهادة الميلودي مخاريق عضو الأمانة العامة للاتحاد المغربي للشغل والكاتب العام للجامعة الوطنية للتكوين المهني؛ الذي اعترف أن تراجع جامعته وانسحاب مناضليها بشكل جماعي سببه نجاح إضراباتها الوطنية...؟
مفارقة عجيبة:
المنطق يقول أن المنتصر يكون في موقع قوة لفرض شروطه على الطرف الآخر؛ أو على الأقل تتعادل المواقع فيحصل التراضي على حل المشاكل، هذا منطق سليم، فكيف يسلم من منطقه التراجع عن الفعل النقابي بعد نجاح حركاته الاحتجاجية..؟ أي منطق هذا..؟ أم أن الأمر تكريس للقاعدة المشهورة " في المغرب لا تستغرب"..؟
تفسير يقول أن السبب هو أن المعركة هي في الأصل مفتعلة الهدف منها رفع قيمة العضلات في مزاد الإدارة غير العلني؛..
وآخر يقول أن النقابة لم تقدر حساباتها بشكل جيد وجنحت للسلم الاجتماعي رغبة في تحقيق مطالبها من منطق الشراكة وليس من منطلق المشاكسة، فانقلب السحر على الساحر ورجعت جامعتنا بخفي حنين؛..
وآخر يقول ويؤكد أن السبب هو ضغط الحكومة على المركزيات النقابية لتضع التوتر في الأرض 'ميز ألطير' لكي لا تحرق الأجهزة ويمر العام بسلام؛..
حنكة الإدارة أم غباء النقابة:
يقر البلاغ أن سبب الأزمة هو إقبال الإدارة على صناعة تعددية نقابية "مزيفة" لضرب الوحدة العمالية؛ وهو نفس الإدعاء الذي برر به الميلودي مخاريق انسحاب مناضلي جامعة التكوين والتحاقهم بكونفدرالية الأموي.
هب أننا سلمنا بأن التعددية النقابية من صنع الإدارة؛ فلماذا يلوم أصحابنا الإدارة في استعمال هذه الورقة وهم يدفعون المناضلين الشرفاء في كل يوم إلى الاستقالة من "الجامعة" أو إلى الالتحاق بفدرالية الكهرباء بوسائل منها:
صم الآذان عن المشاكل الآنية للشغيلة؛ بلها الملفات الثقيلة من عيار التقاعد والتحرير والترقية؛
سد الأعين عن الكفاءات الشابة التي برهنت عن نضج في الفهم وإقبال على الفعل وإصرار على العطاء؛
إطلاق الألسن في الدفاع عن "المناضلين" الذين تبين للخاص والعام أنهم أصحاب مصالح ذاتية ومفاسد أخلاقية لا يحجبها عن الشغيلة غربال تزييف الحقيقة المثقوب؛ وفي نفس الوقت يتناسون المناضلين الذين ضحوا بالغالي والنفيس وتعرضوا للأذى بسبب مواقفهم الرجولية في سبيل الله والمستضعفين.
بدعة عند المناضلين أصبحت قاعدة:
يعرف بعضهم المناضل بكونه المستخدم الذي يترقى في كل عام مرة، والذي له فترة قارة في مراكز الاصطياف ليستريح من هموم – شغله- عفوا شغيلته، والذي يتقن فن المستحيل، بالكذب والمراوغة وتزيين القبيح وتقبيح الجميل؛ والذي يرى عليه أثر 'النعمة' في وقت قياسي.
كيف تقنع العامل المسكين وهو يرى هذه النماذج تصول وتجول أن العمل النقابي تكوين وأخلاق، ونضال وعطاء، وتواصل وارتقاء...؟؟؟
يقول الله عز وجل (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) القسط هو أول مهمة من مهام المناضل الحقيقي، قسط في المغرم يسبق قسط في المغنم، تقسيم التضحيات بنفس القسط الذي تقسم به الحاجيات أو الكماليات، ثم ما ينفع العامل المصلحة المادية وكرامته مهانة يستوي هو وكرسيه عند رئيسه بل هو أهون؛..
من هنا يجب أن نبدأ لترجع لنا روح المبادرة، لأن ناطحات السحاب لا تشيد على الرمال، ولأن الذي يفرغ الماء على الرمل لن يجني شيئا ولو تناطح السحاب.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟