«الطحن» أصالة مخزنية



ليس جديدا تدبير الشأن العام في المغرب بسياسة الطحن ومقتضياتها السلطوية، بل هي أصل متجذر من أصول الدولة المخزنية خاصة في أوقات الأزمات، كالتي عصفت بالمغرب على أيدي أُغيلمة الدولة العلوية.. وهذا نموذج وقع سنة 1910 جاء ذكره في كتاب إدموند بورك ، قال: « وكان من الطبيعي أن تستاء القبائل من الضغوط المتعاظمة التي يمارسها ممثلو المخزن وأن تنجذب أكثر فأكثر نحو الثورة. وهكذا دخل المغرب مرة أخرى في الحلقة المألوفة " العصر (أو الطحن)"، "الثورة" "القمع"، التي ساهمت سلفا في سقوط مولاي عبد العزيز.» ص 243
لم يكن إسقاط المخزن في عهد الغلام عبد العزيز بإزاء «فتنة» كبرى كما تُصورها بعض المراجع، بل كان عزله من خلال حركات شعبية سلمية في غالبها، ولم تحركها النخبة العالمة أو المثقفة بل تحركت هي نحو هذه النخبة المتواطئة مع المخزن من أجل وضعها أمام الأمر الواقع.

وهذا مثال من تلك النماذج غير العنيفة من الحراك الشعبي وقعت أحداثها في سنة 1907 ليس بعيدا عن مدينة باديس المشتعلة بالأحداث التاريخية الهامة. جاء في نفس الكتاب صفحة 197 أنه « في 30 دجنبر، حل بمدينة فاس مبعوث من قبل السلطان مولاي عبد العزيز، السي إدريس الفاسي، محملا برسالة من السلطان. وحسب ما أشيع في شأن مجيئه أنه يحمل رسالة سرية إلى علماء فاس يطلب فيها إصدار فتوى تبيح أخذ قرض أجنبي آخر ذي قيمة كبرى. وبمجرد حلوله بالمدينة، أحيط بجمهرة من الغاضبين مطالبين إياه بقراءة الرسالة علنا. لكن سرعان ما تبين أن الرسالة ما هي في واقع الأمر إلا رسالة شكر إلى أعيان فاس على الطريقة التي عالجوا بها مشكل الاضطرابات التي عاشتها المدينة في 15-17 دجنبر. آنذاك انسحب المتجمهرون.
غير أنهم سرعان ما عادوا وتجمعوا من جديد بالقرب من ضريح سيدي عبد القادر التازي، وقد أضحوا الآن أكثر تهيجا، وثمة أعلنوا استقلالهم عن السلطان والعلماء. بعد ذلك أمروا سبعة من العلماء بالمثول أمامهم مطالبين إياهم بفضح سر الرسالة وقراءة فحواها على مسامعهم. وعلى الرغم من إنكار العلماء وجود أي رسائل من هذا القبيل إلا أنهم اضطروا لمصاحبة المتجمهرين (الذين أضحى عددهم آنذاك زهاء 20.000 فردا) إلى جامع القرويين.
وهناك التمس هؤلاء من العلماء إصدار فتوى حول أهلية مولاي عبد العزيز في البقاء سلطانا على البلاد. طلب العلماء مهلة يوم للتدبر في أمر الإجابة. آنذاك حضر علماء آخرون إلى الجامع.. ومرة أخرى تمسك العلماء بطلب تأخير الإجابة إلى وقت لاحق، إلا أن المتجمهرين هتفوا منددين بموقفهم. آنذاك بلغ عدد المحتشدين في المسجد والأزقة المحيطة به قرابة 40.000 رجل. وبعد مشاورة لم تطل، أعلن قاضي فاس رأي العلماء في المسألة الذي يقضي بأن هذا الرجل عبد العزيز يجب أن يخلع حالا.
إثر ذلك قام العلماء الحاضرون بالتوقيع على الفتوى وسط هتافات جمهرة الحاضرين المؤيدة. انتشر خبر عزل مولاي عبد العزيز في كل أرجاء المدينة عبر "البرّاحين" الذين طافوا الأحياء معلنين الخبر. عمّ الفرح وسادت البهجة قلوب الناس خلال الأيام التالية، بينما ظهرت محاولات لترهيب وتخويف من ظلوا مؤيدين لمولاي عبد العزيز في المدينة.» ص198

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟