التاريخ لا يعيد نفسه


وإن تشابهت الأحداث بين الماضي والحاضر، فهو ليس دليلا علميا على أن التاريخ يعيد نفسه. هذه المقولة مترجمة عن الفرضية الأجنبية التالية: "l’histoire se répète"، وتأتي عادة في سياق التشاؤم والهزيمة، كما كتب شاتوبريان في ذكريات من وراء القبر: "التاريخ يعيد نفسه، فهو ليس إلاً تكراراً للحقائق نفسها وإن اختلف الناس والزمن". وجاء تصريحه هذا تعقيباً على ما قدّمه من تماثل بين الإطاحة بالإمبراطور نابليون الأول والإمبراطور نيرون الروماني.

فرضية "التاريخ هو إعادة أبدية" تُـنسب إلى المؤرخ اليوناني ثوسيديديس Thucydides الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، واستدعاها مجموعة من الفلاسفة والمؤرخين. وترتبط أكثر استعمالاتها بظروف الهزائم والتشاؤم النفسي، وليست مفاجأة أن نجد الفيلسوف المتشائم نيتشه من روادها الكبار. ونقع على هذا المعنى عند كارل ماركس في قولته: "التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة". وقد تميل الفرضية إلى تطرف آخر عندما تنزع عن الإنسان كل تأثير في مجرى الأحداث فيتحول "الفاعل" مفعولا به، كما قال مارتن لوثر كينج: "نحن لا نصنع التاريخ، بل التاريخ هو الذي يصنعنا".
وحتى في الخطاب والفكر الإسلامي تجد الكثيرين من رواده يستدعون هذه المقولة في سياق الأحداث البئيسة والهزائم التاريخية حصراً، أما في أوقات النصر والتفاؤل فتُطوى هذه المقولة ولا تُستدعى، وكأن المنتصر يتجنبها لانعدام المناسبة أو لكونه يعتبر نفسه بداية للتاريخ أو طفرة ليس لها مثيل في الماضي!.
على الرغم من أن الخطاب القرآني واضح في التعليل وفي توضيح المفهوم الذي يمكن أن نُسميه مفهوم "التماثلية التاريخية"، فالتاريخ، في هذا الخطاب، لا يعيد إنتاج أحداث، ولكن الوقائع، أقوالا وغيرَها، تتماثل بسبب تشابه القلوب، أي تشابه الدوافع النفسية. قال تعالى: "وقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ". وفي آية أخرى: "بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ. قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ"؟ لهذا فتشابه الوقائع هو تأكيد على أن مقولات الإنسان، منذ القدم إلى اليوم، محدودة، وأن القوانين التي أودعها الله في الخلق لا تتغير إلا بإذنه. ومثل هذا قاله أحد الأطباء والاجتماعيين الفرنسيين الذي اقترب كثيرا من الفكر الإسلامي، جوستاف لوبون: "التاريخ لا يعيد نفسه دائما لكن القوانين التي تنظمه هي الخالدة".
وإذا كان من شيء يتكرر في جميع مراحل التاريخ فهو أن الإنسان لا يستفيد من دروس التاريخ، ويجتهد بكل قوة لكي ينسى تاريخه ويكرر الأخطاء نفسها والمقولات ذاتها؛ لأن مصدر "القلب الإنساني" واحد.
هناك فئة أخرى "تؤمن" بأن التاريخ يعيد نفسه لكي تُقدم بإيمانها هذا معنى لواقع مرير عَصِيّ على التحليل والإفهام، وهذه الفئة تجتهد لتقديم التماثل التاريخي أكثر من اجتهادها في تحديد المُدخلات المشتركة لمُخرج متشابه، لكن مآلاته قد تكون متعددة إلى حد التناقض.
هذا مثال واحد على ذلك. هناك تماثل في بعض العناصر بين دخول حزب الاتحاد الاشتراكي لحكومة التناوب سنة 1998، ودخول العدالة والتنمية إلى الحكومة في 2011، لكن تلك العناصر لا تُسعفنا لنجعل منها تكرارا وإعادة تاريخية بين لحظتين تحتويان من التناقضات والاختلافات ما يفوق بكثير التماثل المحدود.
دعنا من السياقات التي كانت وراء استدعاء اليوسفي أو تعيين ابن كيران، وكيف أن المغرب كان في كل لحظة منهما مهدد..، ولننظر إلى المآل في الواقعة الأولى والمحتمل في الثانية: الاتحاد الاشتراكي بدأ ينقسم على نفسه قبل استكمال الولاية الأولى، مرة على أيدي النقابيين، ومرة أخرى على يد الشبيبة الاتحادية، وربما كانت تلك الانقسامات سببا عَجل بإنهاء "المنهجية الديمقراطية" وتعيين إدريس جطو. في حالة العدالة والتنمية لم يقع شيء من ذلك، بقي الحزب قويا بنقابته وشبيبته وحركاته الجمعوية والدعوية، بل وتكرس تقدمه على الأحزاب الأخرى في الانتخابات الموالية، ولا يظهر في الأفق بإزاء "المنهجية الديمقراطية" من مخرج يتخلص به المخزن من الحزب الذي يتمدد في كل الاتجاهات، ويهدد بذلك التمدد موارد النظام الذي لا يقبل هكذا برامج كفيلة بأن تخلق داخله احتكاكات بينية وتنازعات كبيرة في الموارد والوظائف.
أكتفي بهذه الملاحظات، وأختم بهذه الفرضية في مآل تجربة ابن كيران. المخزن اعتاد منذ القديم (قبل الاستعمار وبعده) أن يستهلك موارد خدامه ومصداقيتهم إلى أن يضمحلوا أو يقتلهم رمزيا وحتى طبيعيا، وهذا ما حصل للاستقلال وللاتحاد الوطني ثم الاشتراكي وغيرهم. هذه المرة هناك مآل آخر، يَفترض أن الخطر سينتقل إلى داخل النظام ويهدده من حيث يعمل ابن كيران على تجنب التهديد بكل براءة واجتهاد. تأملوا على ضوء هذه الفرضية أسباب انفتاح ابن كيران على كل الأحزاب، وتسريب احتمال استوزار مستقلين باسم العدالة والتنمية .. إلخ.
يعلم ابن كيران قبل غيره أن استقرار النظام المخزني أولى من استمرار حزب العدالة والتنمية، وأن مقاصد المخزن في تجديد قوته مُقدم على أسباب قوة حزبه، وهذا اقتناع تربى عليه منذ شبابه. هكذا يعترف ابن كيران في ندوة فكرية حول مستقبل المغرب بجامعة لندن في شهر أكتوبر 1994 بالآتي: "إن هناك من يتساءل عما إذا كانت الحركة الإسلامية تمثل خطرا على الديمقراطية؟ .. و إن خطرها لا يتعدى كونها، إذا ما شاركت في انتخابات ديمقراطية وفازت، فإن رموزها يزج بهم في السجون، وقد يؤدي ذلك إلى إلغاء الحياة الديمقراطية جملة".
وفي الأخير نتساءل: إزاء كل ما سبق، هل من مانع دون أن تكون لتجربة العدالة والتنمية مآل آخر غير مآل تجربة الاتحاد الاشتراكي؟ سيقال: بالطبع لا.
إذن التاريخ لا يعيد نفسه.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

الهجرة النبوية، بأي معنى؟