رجال في الطوفان (قصة قصيرة)

داخل خزان كبير، مخصص لنقل المياه إلى ساكني الصحراء، وضع أبو الخيزران مجموعة من الناس الحالمين بالعمل خارج أرضهم المغتصَبة. لم يجبرهم على ذلك بل نزلوا إلى هوة الخزان بكامل رغبتهم ثم أقفل عليهم الفوهة بإحكام مبالغ فيه تحسبا لفضول زائد من جنود المراقبة الذين يحاربون تهريب المهاجرين "السريين" بين أقطارهم المُحتلة بكل علنية.
طالت الرحلة الشاقة، على شاحنة متهالكة لأبي الخيزران، وسط صحراء يضرب لهيبها الخزان الحديدي بكل طاقة الشمس المتجددة وكأنها تحفزهم للاحتجاج على مقامهم البئيس. لكنهم صبروا وتحملوا كي لا ينكشف أمرهم فيصبحوا على حال كما إخوانهم في صحراء سورية المنكوبة.
وصلت البضاعة لأرض الميعاد وفتح أبو الخيزران الخزان فوجدهم قد ماتوا جميعا داخله. لم يشفق لحالهم لأنه لا يعرف أصولهم، ولم يغضب لحاله لأنه أخذ الثمن قبل انطلاق رحلة الموت. ولم يكلف نفسه تنظيف الخزان من الداخل بسبب رائحة اللحم البشري المشوي على حديد صدئ، بل أفرغ الماء بداخله حتى امتلأ الخزان ثم باعه لأهل البلد وهو يعلم أنهم لن يشعروا بآثار إخوانهم الموتى على أعتاب كسرة خبز حافي.
لكنه مع ذلك تساءل مع نفسه، وقال أبو الخيزران يخاطب فضوله الفطري: لماذا صبروا على ألم الموت دون حركة! "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ ... "
وإذ هو في حيرة من أمره، يُقلب فكره البسيط بحثا عن جواب لسؤال حير العلماء، "فجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ... انتهت" .. أصداء الصحراء فارتجفت فرائص أبي الخيزران حينها ظن الصحراء مسكونة بجنٍّ مارد.. ثم رأى رجلا يخرج شبحه من جهة المغرب الصحراوي، رآه قادما إليه وهو يبتسم!
تسمر أبو الخيزران في مكانه ولم يستطع تحريك شفتيه. ولما علم الرجل بحاله قال له:
هل هالَـــك أنهم لم يقرعوا الخزان!
في موطني دقوا الحيطان، قرعوا الأبواب، صرخوا بكل قوتهم، ولم تفتح لهم فوهات النجاة!
نسي أبو الخيزران خوفه وأخذه الفضول ليسأل الرجل الغريب:
وهل كانوا كذلك داخل الخزان؟
لا .. هناك يسمونه "المخزن" وهو الذي ينفذ إلى داخل الناس ولا يسمح لأحد أن يتسرب إليه.
وماذا وقع ؟ هل أحرقهم لهيب الشمس؟
لا.. غمرهم الطوفان فماتوا داخل المخزن!
أين هم ؟ من هم ؟ لماذا هم ...؟
قاطع الغريب استفهامات أبي الخيزران: هم رجال ونساء وأطفال يُلاقون النَّصَب في سفرهم لكي يصلوا إلى مجمع البحرين. فيه يصبرون على خرق أرزاقهم، يصبرون على قتل غلمانهم، يصبرون على بخل مجتمعهم.. لكنهم لا يعصون للخزان أمرا.
لهم سفن تجوب المحيطات لكنهم لا يشبعون من "السر دين"، بينهم عباد أوتوا رحمة وحكمة ربانية لكنهم لم يعلموهم "سر الدين".
ماذا .. سر الدين! وهل للدين أسرار ؟
ليس أسرار ولكن سر واحد وهو فضله وجوهره، وهو ذاك السر الذي جاء يبحث عنه نبي الله موسى في مجمع البحرين حيث يلتقي البحر الأبيض ببحر الظلمات و "بينهما برزخ لا يبغيان"2021
خلـّــص موسى عليه السلام أمته من الفرعون بالطوفان ووضع الأركان على تعاليم رب كريم الإنعام، ثم صبر على عنت قومه حتى جاء به القدر ليتعلم سر الدين.
لم أفهم بعد أيها الغريب! أفصح فإن الشيطان أنساني أن أذكره.
من حفظ سفينة المساكين من اغتصاب الملك؟
قال أبو الخيزران: الله
من أعتق الغلام من الطغيان والكفر وأعتق والديه من الرهق؟
قال أبو الخيزران: الله
من حفظ لأبناء الصالحين كنزهم في مدينة الأنانية المستعلية؟
قال أبو الخيزران: الله
ها أنت قلت الله، الله، الله.
هو هذا السر يا أبا الخيزران.
قبل موسى كان فرعون يعتبر نفسه مركز الكون،
بعد التحرير ظن الناس أن موسى هو مركز الكون،
بعد الرحلة إلى مجمع البحرين تعلم موسى عليه السلام أن شيئا لا يتحرك إلا بالله وأن أقدار الله الخفية فيها قضاء حكيم ولو ظهر عكسه وأن العاقبة للمستضعفين.
فهمت أيها الغريب قصدك وأنا سأصحح استفهاماتي السابقة: لماذا لم يطرقوا أبواب الدعاء ؟
ابتسم الغريب وقال: طرق الجدران ضروري لكنه لا يكفي، وطرق أبواب الدعاء كذلك ضروري لكنه لا يفي لوحده.
هما معا هو سر الدين.
هل فهمت الآن يا أبا الخيزران؟
نعم أيها الغريب.
فهمتَ إذن. فاجمع دنانيرك التي سقطت منك.
انحنى الخيزران الطويل إلى الأرض مسرعا لكنه لم يجد دنانير. فرفع رأسه وهو يقول:
أين الدنا... نير ؟
آه .. أين أنت؟
كيف اختفيت فجأة كما جئت!

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟