أوراق من ساحات الحراك

 مقدمات

ما يزال الوقت مبكرا للكتابة التاريخية بخصوص "حركة" 20 فبراير ولا يستقيم ذلك، لكون الفاعلين المباشرين وغير المباشرين ما يزالون صامتين عن تقديم حقائقهم التي دفعتهم للعب أدوار معينة في الأحداث التي جرت في بداية العشرية الأخيرة، ولكون ارتدادات تلك المرحلة لم تستقر بعدُ على حال مستديمة وما تزال حمّالةٌ لمتغيراتٍ كامنة قد تقلب المخرجات الحالية رأسا على عقب.

إن سرد الأحداث كما عاشها أصحابها هو تمرين بالغ الأهمية للأجيال القادمة لكي تتعرف على الحقيقة التاريخية التي حركت أو منعت الجيل الحالي من الحركة، لكنه تمرين يتوقف على مراعاة الاعتبارات الإشكالية التالية:

1.    الموضوعية لكن بمعنى آخر، وهي أن يتحرر السارد للوقائع من احتمالية تأثر علاقته الآنية أو المستقبلية بالفاعلين وإلا سيدفعه ذلك القيد إلى تضخيم بعض الوقائع أو إلى تجاهل بعضها الآخر حسب الوضعية المختارة سلفا.

2.    الشهادات الذاتية لفاعل واحد، على أهمية دوره في الوقائع، لا تكفي في المنهج التاريخي لأن خيوط تلك الوقائع ليست جميعها في متناول ذلك الفاعل ولو كان قريبا من ماكينة الفعل والممارسة الميدانية. وهذه الملاحظة تشترك فيها الواقعة البسيطة والتي هي أكثر منها تركيبا وتعقيدا بل هي أولى بالاعتبار من الأولى.

سنجد منهجية تعالج الإشكالية الثانية يمكن تسميتها بتقاطع الوقائع (recoupement de faits) وهي التي تحقق في الأحداث من خلال المقارنة البينية عبر مصادر متعددة في الموضوع الواحد. وكمثال على ذلك وجدنا في إطار البحث عن التواصل الحضاري بين المغرب وفرنسا خلال القرن التاسع عشر زيارة قام بها إلى فرنسا الحاج إدريس العمراوي وقد كان شديد الملاحظة للمجتمع الفرنسي ومظاهر حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكان ذلك في عهد الإمبراطور نابليون الثالث الذي استقبل الوفد المغربي في قصر سان كلود يوم 10 يوليوز 1860 بحضور وفد هام من رجال الدولة الفرنسيين. ومما يؤكد شدة ملاحظة السفير المغربي أنه حكى مراسيم استقبال الوفد المخزني في جزئياته (عدد العربات والأحصنة، والوفد المرافق، والمستقبلون لهم...) ولقد جاء ذلك في كتابه (تحفة الملك العزيز بمملكة باريز) متطابقا بشكل كامل مع تقارير الجرائد التي صدرت في فرنسا خلال ذلك الأسبوع (من بينها جريدة La presse).

لكن هل تُغني شهاداته المستفيضة حول المظاهر الشكلية لحضارة "مملكة باريز" لفهم جوهر الحكم في بلاد عرفت ثورات عديدة تحول نظام الحكم فيها من مملكة إلى جمهورية إلى امبراطورية ثم إلى ملكية فجمهورية ثم إلى إمبراطورية ثانية؟

وهل سيكون السارد موضوعيا في شهادته على جوهر الحكم، حتى وإن تمكن من فك رموزه، وهو يستشرف في زيارته السفارية توطيد علاقات المخزن مع مملكة قوية أصابته مظاهرها المدنية بالانبهار؟

المنبهر بعيد عن الموضوعية بُعد المتحامل عنها، وقديما قال الشافعي: وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولكن عين السخط تبدي المساوِيا.

فبأي عين يمكننا أن نتأمل بالنقد تجربةً ماضية لـ "حركة" 20 فبراير لكيلا نسقط في عمى الانبهار أو عمش التحامل؟

20 فبراير .. حراك أم حركة ؟

مرت عشر سنوات ورغم ذلك ما زال موضوع 20 فبراير يُقارَب من خلال منهجية جدالية (controversée) إلى حد التنازع، ليس فقط بين الباحثين ولكن أساسا، بين الذين كانوا فاعلين في الميدان أو الذين أعلنوا دعمهم للحراك منذ انطلاقه في فبراير من سنة 2011.

نتذكر جميعا الجدالات المزامنة للحراك في أغلب الفضاءات التي كانت تجمع أطرافا فاعلة في تلك الدينامية المجتمعية، وحتى عندما يجتمعون في هياكلهم الخاصة كانوا يرسلون تصريحات حادة ضد طرف معهم في الحراك الاجتماعي. وذلك التوجه انعكس بشكل سلبي على الشبيبات الحزبية الداعمة للحراك ووصل إلى الشبيبات الجمعوية والمستقلة حزبيا. وتعدى ذلك إلى المجتمع الذي كان ينظر إلينا كفاعلين غير ناضجين في أحسن الأحوال.

أتذكر جيدا خلال أول وقفة في ساحة الحمام بالدار البيضاء يوم 20 فبراير 2011 عندما كنا جالسين أرضا وبشكل مفاجئ نشب خصام وتعالت الأصوات فنهضتُ مسرعا نحو مصدر النزاع ونهض في نفس الوقت رجل آخر، وقبل أن نصل انفض الخصام وهدأت الأصوات فرجعت إلى مكاني الذي كان بجانب المناضل الحقوقي والنقابي عبد السلام أومالك فلاحظت أن الرجل الذي نهض كان يجلس بالقرب منا فقلت لرفيقي أومالك من الرجل؟ قال: هو مناضل من حزب الطليعة اسمه العربي الشنتوفي.. فقلت للرفيق الجديد: لماذا تحركتَ سي العربي بتلك السرعة؟ فقال لي: "نحن هنا في هذه الساحة لكي نتعلم جميعا الديمقراطية"! لم أدر ماذا أفرحني في الرجل، أهي سرعة بداهته في الميدان! أم عقله الكبير وتواضعه الجم! ومنذ ذلك اليوم توطدت علاقتنا حتى رحلوا عنا إلى الدار الأخرى، رحم الله أصدقائي أومالك والشنتوفي.

هذه العملة النادرة من الرجال كانت تتألم في صمت وتتوارى إلى الوراء داخل صفوف الهيئات الداعمة، لذلك لم تستطع تلك العقول الديمقراطية والقلوب الطلائعية أن تنتقل باليقظة الشعبية من حركة احتجاجية لها مطالب (..) إلى حركة اجتماعية لها مشروع مجتمعي، ولذلك سنجد إلى اليوم من يتحدث عن "حروب الشرعيات التي لن تحسمها الذكرى العاشرة" للحراك وذلك صحيح إلى حد كبير ليس بسبب الاستقطاب السياسي أو المخزني ولكن بسبب علة العلل وهي أن الحراك انطلق قبل تأسيس الحركة، ولا يمكن لحراكٍ أن يبني حركة بأسسها المعلومة وهو يموج في معمعان الحسابات العقلانية المتسارعة.

في سيرورة الحراك الاجتماعي هناك شرط بالغ الأهمية وهو مصيري في كل انتقال في الحكم يجنب الشعوب مآسي الاحتراب الداخلي، وهذا الشرط هو أن تتحول الذات الفاعلة قبل أن يتغير الموضوع. بمعنى آخر، إذا كان الموضوع (التحول الديمقراطي الحقيقي) الذي يجب أن يوحد الأطراف حول شرعية واحدة وجماعية فإن هذه الشرعية لا تتكرس على أرض الواقع مالم تتحول بالفاعل من وضعية الحراك الاجتماعي إلى وضعية الحركة الاجتماعية. وكل إصرار على تحقيق التغيير بإزاء الحراك الاجتماعي حصريا، وبدون حركة اجتماعية، إنما هو عجز استراتيجي ووقوع في شراك الحركة الاجتماعية المضادة التي تستطيع بسهولة بالغة أن تشتت الحراك بأساليب لا تنتهي وسائلها وتكتيكاتها. ولو ذهب الحراك، بدون حركة، إلى تغيير في رأس الحكم كما حصل في مصر وليبيا وتونس واليمن والسودان ... فإن الفاعل المضاد يعود للتشكل (se métamorphose) في أقرب فرصة لأن خصمه سيتلهى سريعا بالحروب الإيديولوجية أو بالتنافس حول الفيء السياسي قبل بناء أسس النظام الاجتماعي البديل.

لنتعلم من الحركة المضادة التي تضم الدولة العميقة (الهوية) بهياكلها الإدارية ومؤسساتها في الضبط الاجتماعي (أحزاب ونقابات وجمعيات وطرق صوفية وحركات دينية ومثقفون وإعلاميون وماليون ...) كل هذا الخليط غير المتجانس يعمل حول هدف واحد (الشمولية)، وهو الاستمرار والاستقرار، بدون تناقض بيني أو مركب نقص أو تطاحن حول الهويات المتناقضة التي تأجلت حروبها إلى حين ينتهي الحراك المعارض (الخصم) الذي يتحارب أصحابه حول الدين والدنيا، حول الهوية الأصيلة والحداثة المعاصرة، حول خصم المركزي من هو؟ ومشروعهم النهائي ماذا يكون؟ ووسيلتهم لذلك كيف تكون؟

عشر سنوات هي كافية للنضج والتواضع وتصديقهما أن نعترف أننا كنا مشتتين أمام كتلة موحدة! كنا متخاصمين أمام خصم متصالح مع ذاته! كنا حراكا "مطلبياتيا" أمام حركة اجتماعية متجذرة، نحن نسميها الحركة المضادة وهي تسمينا مساخيط الدولة؟

بعد كل هذا، هل نقتنع أننا لم نحرر مناط الخلاف إلى اليوم؟ وإذا استجاب لنا القدر وأردنا تدارك الذات والموضوع فكيف سنعرف حركتنا الاجتماعية؟

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟