هذه خيارات الملك



في شهر مارس من سنة 2012 كتبتُ مقالا تحليليا حول مآل حكومة السيد ابن كيران كانت هذه خلاصته: ”حتى ولو اتبع إسلاميو العدالة والتنمية ملّة المخزن، فإن هذا الأخير لن يرضى عنهم بعد سُكون عاصفة الربيع العربي، لكنه سيضطر للتنازل عن بعض المُسَكِّـنات لصالح حكومة بن كيران وسيقوم بتضخيمها تمويها للرأي العام؛ وبعد خروجها من منطقة الإعصار ستتخلص سفينة المخزن من حمولتها الزائدة“[1].
هذه الخلاصة المركزة كانت بإزاء، تأمل عميق في الحياة السياسية المغربية من خلال مرجعيات الحزب ومرجعيات النظام المغربي في تفاعلاتها مع السياقات الإقليمية والدولية، وتأمل في نظريات العمل الجماعي التي وضعتها تيارات علماء الاجتماع والسياسة.


الحركة وتعبئة الموارد
إحدى هذه النظريات تفسر "منطق" العمل الجماعي من خلال مفهوم "تعبئة الموارد Mobilisation des ressources" التي يقوم بها فاعل جماعي بإزاء ما لديه من قوة، أو مال، أو امتدادات شعبية أو مؤسساتية... لكي يقتحم دوائر النظام ويستقر في أجهزته ثم يتمدد ويحافظ على مواقعه بشكل دائم.
جربت الحركة اليسارية المغربية هذه المقاربة، لمّا قطعت مع المقاربة التاريخانية التي كانت تقول أنا أو الملكية التنفيذية، لكنها خرجت من التجربة بدون أجنحتها الشبابية أو النقابية أو الفكرية... وقد ساهم النظام بحظ وافر في انشقاقاتها لأن مرجعية المخزن لا تقبل بالتعايش مع فاعل سياسي أو اجتماعي ينمو باطّراد داخل المؤسسات الرسمية بإزاء محفزات المناصب والمسؤوليات.
ثم جاء دور الحركة الإسلامية متمثلة في المجموعات التي تجمعت في "حركة التوحيد والإصلاح" التي تمددت مع الوقت في حزب الخطيب ثم في نقاباته المهنية والعمالية ثم في إطارات الشباب والطلبة ثم كونت لنفسها جمعيات ثقافية وتربوية ومالية وتنموية ... لتستجمع عناصر "الحركة الاجتماعية صاحبة الموارد" التي لا ترغب في تغيير أو إصلاح النظام، وإنما تتمنى فقط التسلل إليه شيئا فشيئا حتى تجد موطئ أقدام في أجهزته الرسمية والإدارية والتمثيلية.
نعم كانت الأحلام السياسية لحركة التوحيد والإصلاح متواضعة بشكل كبير في ظل معرفتهم الراسخة بطبيعة النظام المغربي وتحفظاته على من ينازعونه الشرعية الدينية وهذا ما ستقوله وثائق رسمية سربها موقع ويكيليكس في نهاية 2010، وفي ظل الصدى الذي رجع إليهم بعد زلازل دول الجوار خاصة في "ديمقراطية العسكر" في الشقيقة الجزائر مع بداية تسعينات القرن الماضي.
ولما جاء الربيع العربي تحفزت أحلام حركة التوحيد والإصلاح وبدأت تكبر بالتوازي مع تمدد التيار الإخواني في بعض الدول العربية، فقال السيد ابن كيران قولته الشهيرة في بحر 2011: جرِّبونا فقط بضعة أشهرٍ في الحكم وإن لم نصلح لكم فأخرجونا منه.

الحركة والبرنامج النّهِم
على عكس البرامج السابقة، الحركة اليسارية مثلا أو الليبيرالية وحتى حركة القصر المضادة "لكل الديمقراطيين"، ظهر للمخزن أن حزب "حركة التوحيد والإصلاح" يشدّ عن القاعدة؛ فهو لا يتراجع جماهيريا أو يضعف انتخابيا بإزاء ملامسته لأجهزة الحكم بل يتقدم بشكل متواصل، فقد انتقل من 9 مقاعد برلمانية بعد تشريعيات 1997 إلى 107 بعد تشريعيات 2011، ورغم أخطاءهم في التدبير وخياراتهم المؤلمة التي تحملتها حكومتهم الأولى انتقل حزبهم إلى 125 مقعد في سنة 2016 رغم كل الجهود الاستثنائية التي بذلتها وزارة الداخلية.
كما لم ينشق حزب الحركة رغم النزاعات الداخلية بين قياداته، فقد حافظت أجهزته الموازية كالشباب والنقابات على تماسكها بعد تناقضات الربيع المغربي الذي خلق نقاشا داخل الحزب ثم فاض خارجه؛ حيث دشن عزيز رباح، ابن قرية دار العسلوجي بإقليم سيدي قاسم، في مارس 2011 حوارا عبر المواقع الإلكترونية بعنوان : " حوار هادئ أريد أن أفهم " دافع بالضبط على أطروحة تعبئة الموارد أعلاه من خلال قصر نضال الحزب على " النضال عبر معارك الانتخابات" فقط، لترد عليه السيدة سمية بنخلدون بمقال يحاول مصالحة "نضال المؤسسات" مع نضال الشارع، حيث وجهت إلى أخيها في المجلس الوطني للحزب الملاحظة التالية: ”وإذا كنا نعتقد أن نضالنا من داخل المؤسسات يتعارض مع نضالنا عبر الوقفات أو المسيرات فلماذا إذن نظمنا العديد من الوقفات للمطالبة بإطلاق سراح أخينا معتصم، كان يمكن بناء على نفس المنطق أن نقول: نكتفي بسؤال شفوي أو اجتماع مع وزير أو ما شابه ! وأعتقد أننا لو اكتفينا في هذا الملف بمتابعة عادية و هادئة عبر المؤسسات لما أطلق سراح أخينا، فلا شك أن ما قمنا به من وقفات و تجمعات مع تسمية الأشياء بمسمياتها و فضح المفسدين بأسمائهم عجل في رفع الظلم عن أخينا معتصم. ألا تستحق بلادنا كذلك أن نناضل من أجلها بكل الوسائل المشروعة بما فيها المسيرات لإزالة ظلم المفسدين عنها؟“.
رغم كل تلك التناقضات البينية لم يغادر الحزب موقعه المتقدم في المشهد السياسي المغربي وهو ما أغضب ويُغضب صناع القرار في المحيط الملكي لأنهم اقتنعوا أن حزب العدالة والتنمية تكيف بسرعة مع بيئة النظام وبدأ يخلق صراعات بين البرامج الحزبية القديمة مما أضعف كفاءة النظام بسبب عدم قدرة معالجه المركزي على تدبير تصاعد الموارد المطلوبة والعمليات المتداخلة، فانتقل التناقض إلى داخل بيئة النظام الذي بدأ يفرز أخطاءً في التدبير وفي البروتوكول الرسمي والديبلوماسي.

أولوية الإضعاف
من هنا نقترب من فهم نية النظام في توجيه ضربات موجعة إلى موارد الحركة من خلال التشويه والمتابعة المتكررة لرموزها الدعويين والشبابيين وحتى لنشطاء الحزب الذين بدأت أخبار موتهم تدفع إلى الواجهة فرضية التصفيات الجسدية المقصودة.
إزاء كل ذلك يظهر جليا أن الهدف الاستراتيجي، الذي يهيمن على النظام في المرحلة الحالية والمقبلة، هو أولوية إضعاف حزب العدالة والتنمية عبر شقه إلى قسمين أو أكثر قبل أي استحقاق انتخابي كان محليا أو تشريعيا لأن حويصلة المخزن لم تعد تقبل هذا المد الانتخابي لحزب العدالة والتنمية الذي يستفيد من ضعف المنافسين أكثر من كفاءة محركاته الذاتية.
الآن، عندما نقرأ سلوك النظام السياسي منذ إطلاق مسلسل انتخابات 7 أكتوبر 2016 على ضوء هذه الفرضية، وهي أولوية إضعاف الحزب، تضح لنا كثيرا من مساحات الظل في خطابات وقرارات المخزن ضد الحزب ورئيسه الحالي.
وعلى ضوء نفس الفرضية يمكن تفسير مسرحية البلوكاج ضد تشكيل الحكومة الثانية التي كانت ممنوعة منذ تعيين ابن كيران في 10 أكتوبر 2016 إلى ليلة 15 مارس 2017 موعد إعفاءه من رئاسة الحكومة الثانية.
ومع كل ذلك لم يحقق النظام أي تقدم في تنزيل البرنامج التفعيلي لتحقيق الهدف الاستراتيجي المذكور سالفا، لكن إبعاد السيد ابن كيران سيكون بمثابة العامل المفضي والمُحفز للسيرورة المسطرة في أروقة الديوان الملكي.
لا يهتم المخزن كثيرا، على الأقل مرحليا، بكفاءات وحيثيات المرشحين لخلافة ابن كيران على رأس الحكومة، الرهان الآن معقود على إيجاد الشخصية التي ستفجر التناقض الحرج والذي من مميزاته أن يقسم الحزب بين تيارين أو أكثر. الموجود الآن في داخل الحزب :
-      تيار سيتمسك بنفس المنهجية التي اعتمدتها الأمانة العامة في تفاوض ابن كيران مع رجل القصر عزيز أخنوش، بحيث سيعتبرون أن آخر تنازل سيقدمونه هو قبولهم بحكومة بدون ابن كيران، ولكن كذلك بدون إدريس لشگر الذي لعب دور القشة التي قسمت ظهر بعير ابن كيران.
-      تيار من البراجماتيين الذين لهم استعدادات بدون حدود تتجاوز إبعاد ابن كيران، الذي لم يُحسن التفاوض باسمهم، إلى استبعاد منهجية الأمانة العامة للحزب في مسألة المفاوضات مع رجل القصر، لأنهم يدركون أن عزيز أخنوش هو المُراد من طرف الملك وهو أمين سر القصر في تشكيل حكومة يلعب فيها وزراء العدالة والتنمية فقط أدوار الكومبارس إلى حين.
التيار الأول يمثل امتدادا لعقلية ابن كيران التي لا يريدها القصر، لذلك سيكون تعيين الملك لعنصر محسوب على هذا التيار هدفا مقصودا لاستدامة البلوكاج نحو اختيارات ملكية أكثر جرأة في تفسير النص الدستوري، أو تكون مرحلة تريث حتى تضح حقيقة استعدادات الجارة الجزائر في خوض مناوشات عسكرية تصنع بها إجماعا وطنيا لضمان انتقال السلطة بعد بوتفليقة بشكل سلس، وهي نفس الذريعة سيتلقفها نظامنا لاستدعاء الفصل المتعلق بحالة الاستثناء في الدستور المغربي.
أما التيار الثاني، وقد يُمثل نسخة مشوهة للشبيبة الاتحادية ولمجموعة "الوفاء للديمقراطية"، فستمنحه الضربة التي تلقاها وسيتلقى غيرها التيار الأول عاملا محفزا لانطلاقه في العلن ولتشكيل خطه الفكري داخل وخارج الحزب، ولا شك أن المخزن له استعدادات جادة ليختصر له الطريق نحو التشكل والبروز. فإذا كانت مجموعة الوفاء للديمقراطية اليسارية قد أخذت زخمها ومصداقيتها من معارضة خط قيادتها في تدبير "البلوكاج الداخلي" الذي عاشه الاتحاد الاشتراكي قبل وبعد المؤتمر السادس في سنة 2001، فإن المجموعة الإسلامية الحالية ستعمل على بناء مصداقيتها بتجاوز "البلوكاج الخارجي" في علاقة الحزب مع النظام.
من خلال ما سبق سيظهر أن أي اختيار سيعتمده الملك في تعيين الرئيس الجديد للحكومة ستكون له انعكاسات مباشرة على الداخل الحزبي للعدالة والتنمية مما سيفضي إلى إحدى النتائج التالية:
-      تمديد حالة البلوكاج لسيناريوهات أخرى من قبيل حكومة الحزب الثاني، أو حكومة الوحدة الوطنية، أو حكومة حالة الاستثناء...
-      تشكيل حكومة جديدة بإزاء شروط أخنوش ومن خلال منهجيته الآتية من الديوان الملكي...
-      منح رئيس الحكومة، الذي سيتم اختياره، مصداقية في التفاوض والاكتفاء بإبعاد ابن كيران عن الحكومة مرحليا قصد ترتيب إبعاده عن رئاسة الحزب ثم ترك الوقت للوقت لتبلور تيارات جديدة من داخل حزب العدالة والتنمية.

خاتمة التجربة
لا شك أن الشروط الاجتماعية قد أظهر تَغيّرا هاما في علاقة المغاربة بالحياة السياسية ومدى مراقبتهم لتقلباتها وتفاعلاتها، وهي أمورٌ تجعل صناع القرار يتحركون بحذر وليس في كل الاتجاهات كما كان عليه الأمر في العقود السالفة.
ولا شك كذلك أن النظام قد دخل مع حزب العدالة والتنمية إلى مرحلة كسر العظام، لإرجاع عقارب ساعة الحزب إلى ما قبل 2011، ليستعيد هيبته ويضمن استمرار هيمنته الحالية والمستقبلية على موارد النظام من المناصب والخدام والعلاقات.
وكيفما كان الحال، لو خرج حزب حركة التوحيد والإصلاح سالما بعد هذا الإعصار فسيكون قد أثبت أنه حالةً فريدة في المشهد الحزبي المغربي الذي يعمل أصحابه من داخل النظام السلطوي. وإلا سيستفيق الحزب وكوادره على هذه الحقيقة، لكن بعد فوات الأوان، وهي أن الثورة التي فعلها المخزن في بيت الحزب وحركة بنكيران أعظم بكثير من إصلاح فاشل في بيت المخزن.


[1] رشيد بوصيري. حوليات العمل النقابي بالمغرب. 2011. ص125

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟