الحنين إلى البلاغة السلطانية



استنتجت الكثير من التعليقات بأن المقارنة بين خطابات الملك الراحل والحالي تفضي إلى فروق جوهرية وشكلية، وبأن خطابات الراحل كانت مشبعة "بالبلاغة السلطانية" التي يفتقدونها في الخطابات الحالية ويذهب ببعضهم الحنين إلى استحضار السابقة بين الفينة والأخرى.

بغض النظر عن شكل الإلقاء، يمكن بسهولة إثبات أن الخطابات الملكية تمتح من نفس المنبع وإن تغيرت الظروف أو الأزمنة واختلفت طرقها من مرتجلة أو مكتوبة، تظل منهجيتها المخزنية هي نفسها في توجيه الإشارات والرسائل إلى خدام الدولة الأوفياء أو خصومها المغضوب عليهم.
لا يحتاج صاحب الخطاب إلى استعمال المؤسسات الدستورية لتقويم «ممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي» لأنه يرى نفسه خارج الضوابط الدستورية وفوق مُسلمات المنهجية المؤسساتية التي لا تسعفه في توجيه الرأي العام للتعرف على من يسبغ «عليهم عطفه السامي ورضاه الموصول» من الذين ينزع عنهم «عطفه» أو يهيئهم للعب أدوار في الخلفيات السياسية.
نأخذ بعض الأمثلة على ذلك. وجه الملك في خطاب 30 يوليوز 2016 الرسالة التالية : «والواقع أنه لا يوجد أي أحد معصوم منه، سوى الأنبياء والرسل والملائكة»، وهي الإشارة التي وردت في معرض حديث الملك عن مفهوم الفساد. وفُهم من الرسالة أنها تقريع لإخوان ابن كيران الذين يتبرءون في كل مناسبة من الفساد في تدبير الشأن العام ويحذرون من إفساد الانتخابات المقبلة.
ثم جاءت رسالة ثانية في نفس الخطاب لتؤكد هذا التقريع وتحدد المعنيين به، وهي قول الملك : «ومن جانبها فإن الإدارة التي تشرف على الانتخابات تحت سلطة رئيس الحكومة، ... مدعوة للقيام بواجبها، في ضمان نزاهة وشفافية المسار الانتخابي»، وهذه معناها واضح في الإشارة إلى أن رئيس الحكومة له سلطة في الإشراف على نزاهة الانتخابات وأن أي إخلال بهذا الواجب يرمي بالتهمة في ملعب الحكومة مباشرة. ثم جاءت الرسالة الأشد في مسلسل التقريعي الملكي لابن كيران حينما قرر إلى أن عدم القيام بالواجب هو نوع من الفساد حيث قال الخطاب : «مفهومنا للسلطة يقوم على محاربة الفساد... وعدم القيام بالواجب، هو نوع من أنواع الفساد».
آخر ورقة يمكن أن يلعب بها رئيس الحكومة وحزبه هي  تكتيك إظهار التناقض في بنية المؤسسات التي تصنع القرار وتنفذه، بحيث يدفع عن حزبه أخطاء الممارسة بكون الدولة لها عدة رؤوس متشابكة، وهو ما عبر عنه ابن كيران بقوله "نحن حكومة ولسنا سلطة". حتى هذه الحجة لم يفوت الملك الفرصة ليلقي بها في وجه رئيس حكومته حين قال : «غير أن ما يبعث على الاستغراب، أن البعض يقوم بممارسات تتنافى مع مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي، ويطلق تصريحات ومفاهيم تسيء لسمعة الوطن، وتمس بحرمة ومصداقية المؤسسات، في محاولة لكسب أصوات وتعاطف الناخبين». ماذا بقي لسكان نظرية "الإصلاح من الداخل" غير التوبة إلى "مبادئ وأخلاقيات العمل السياسي" كما يعرفها المخزن وإلا فالنتيجة الحتمية هي حملة جديدة للتطهير السياسي.
بمناسبة التطهير، يستذكر الباحثون الحملة التطهيرية التي أعلنها الملك الراحل ضد خصومه في بداية  1996، لكنهم لا يربطون بين خيوط الحملة بمدخلاتها السياسية والاقتصادية. وإزاء ذلك سيظهر من سياقاتها نفس المنهجية المعتمدة في "البلاغة السلطانية" ولو تغيرت الظروف.
ففي خطابه أمام البرلمان بتاريخ 13 أكتوبر 1995، سيعلن الملك أنه توصل من مدير البنك الدولي بتقارير سوداء عن وضعية التعليم والإدارة والاقتصاد... علق عليها الحسن الثاني بالتالي: «لقد قرأت هذه التقارير فوجدت فيها فصاحة موجعة وأرقاما في الحقيقة مؤلمة ومقارنات تجعل كل ذي ضمير لا ينام ... من الممكن أن يقول البعض هذا شيء قلناه ... ولم نكن مسؤولين عنه لأننا لم نكن في الحكومة. طيب ... إذا كان هناك جهاز تنفيذي فهناك جهاز منفذ. والجهاز المنفذ هو الموظفون وبالأخص السامين منهم وإذا حللت كل وزارة وزارة أو كل مكتب أو مصلحة عمومية أو شبه عمومية... أجد أن أغلب أطرها ينتمون إلى المعارضة أو يتعاطفون معها... فإذا كانت السلطة التنفيذية مقصرة فالأطر المنفذة لم تكن دائما نزيهة».
وهنا يظهر التشابه الكبير بين الفقرة الأخيرة والفقرة الواردة في خطاب 20 يوليوز 2016 : «لا يوجد أي أحد معصوم من الفساد».
الرسالة الواردة في الخطاب الحسني في 1995 كانت كذلك واضحة في مضمونها حيث جاءت لتقول، مع عبد الله العروي في خواطره : أن النظام كان مقبلا على تغييرات جوهرية في ظل «أغلبية برلمانية تفتقد الهيبة اللازمة لاتخاذ قرارات ضرورية وصعبة... الحل إذن واضح وهو تطعيم الجهاز التنفيذي بعناصر شابة من المعارضة».
وحيث أن عبد الرحمن اليوسفي كان يتلكأ في أمر "التطعيم" فإنه كان بحاجة إلى محفزات من خارج الحزب لكي تغمر آذان هيئاته التقريرية أصوات "العقلانية" المنتظرة لمقاعد المسؤولية. لم ينتظر الحسن الثاني أكثر من شهرين لكي يبرهن للمعارضة معنى من معاني قوله "الأطر المنفذة لم تكن دائما نزيهة" حيث أصدر أربع وزراء دورية مشتركة ستعطي انطلاقة ما سمي بالحملة التطهيرية التي ضربت بعضا من رجال الأعمال والسياسيين ومنهم رموز محسوبين على المعارضة، واحد منهم قدم شهادة مكتوبة عن الحملة في مذكرات عنونها بـ"الاتحاد بين التغيير أو الانقراض".
ماذا تغير بين 1996 و2016 غير عصرنة الأشكال؟ الخطاب في جوهره لم يتغير، ومنهجية تدبير الحكم هي نفسها رغم التعديلات الدستورية. أما عقلانية الفاعلين الحزبيين والتقدميين فلازالت تقبل بنفس التعامل والممارسة رغم رياح الربيع التي أنذرت بعواصف قادمة.
قد تكون البواعث السياسية والتموقعات المؤسساتية مختلفة بعد 20 سنة، لكنها حتما ستؤدي لنفس النتيجة لأن أصحاب ابن كيران لم يستوعبوا جيدا بلاغة خطاب 20 فبراير 2011.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟