التقارب النقابي الثلاثي.. سياقات وإمكانات



مدخل
داخل مقر الاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، أعلنت القيادات النقابية الثلاث بتاريخ الأربعاء 29 يناير 2014 في ندوة صحافية عن ميلاد التنسيق الثلاثي الذي جمع الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل، وكان ذلك بحضور أعضاء المكاتب التنفيذية للمركزيات الثلاث وجم غفير من النقابيين والصحافيين وبعض الرموز السياسية. ورغبة في فهم سياقات وملابسات هذا التنسيق وإمكانات تحوله إلى جبهة نقابية نضع بين أيديكم هذه التأملات من عمق المتابعة والرصد.
التقارب ومقدماته   
قامت الفدرالية الديمقراطية للشغل بعدة زيارات جمعت قيادة هذه المركزية النقابية بقيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في بداية 2012 - أي بعد تنصيب حكومة بن كيران- توجت هذه اللقاءات بالمسيرة المشتركة ليوم 27 ماي 2012 بالدار البيضاء؛ وفي ذات السياق جاءت زيارة إدريس لشگر إلى ميلودي مخاريق في مقر الاتحاد المغربي للشغل يوم 21 فبراير 2013 حيث أعلن الطرفان، أن التنسيق بينهما هو لخوض معارك من أجل الديمقراطية والمساواة والحقوق النقابية، وأن هذه المعارك «هي اليوم حاجة حضارية ومجتمعية تتجاوز الظرفية الحالية إلى إقامة التوازن داخل المجتمع حتى لا يختل لفائدة مكون ضد آخر»[1].

وحتى إعلان 29 يناير 2014 - الذي وصف بالتاريخي -  لم يأتي ضربة واحدة، بل سبقه اجتماع أول بدار الكهربائي ثم بدار المحامي حيث ضم ممثلين عن النقابات الثلاث وخرج عنه أول بيان مشترك مُوقّع من طرف المركزيات الثلاث بتاريخ 23 يناير 2014 ويحمل العنوان التالي: «المركزيات النقابية ترفض المساس بمكتسبات التقاعد وبكافة الحريات والحقوق»، ليختم البيان بأن المركزيات النقابية الثلاث «تخبر الرأي العام الوطني والعمالي بمواصلة العمل المشترك، وبعزمها على اتخاذ مبادرات سيتم الإعلان عنها في وقتها». لم تدم طويلا حالة التكهن، ويبدو أن شيئا ما استعجل المركزيات الثلاث لإعلان التنسيق الثلاثي بعد ستة أيام فقط من التلويح «بعزمها على اتخاذ مبادرات».
التقارب ودوافعه
منذ سنوات بدأ " شعار العمل الوحدوي " يتطور داخل الحركة النقابية المغربية، من خلال الخطاب النقابي ومن خلال العمل الجبهوي القطاعي والمحلي، فقطاعات التعليم والصحة والجماعات الترابية...، فرضت منذ سنوات على نقاباتها القطاعية تنسيقات بَينيّة، وكذلك كثير من الفروع والجهات كانت تفضل العمل المشترك من أجل الدفاع عن مطالبها العادلة.
ثم جاءت تجربة الربيع المغربي لتقدم نموذجا، ظل في عداد المستحيلات، للتدافع مع جبهة الاستبداد والفساد فتحقق للمستضعفين ما لم يكن مسطرا في برامج الأحزاب السياسية أو المطالب النقابية. وسرعان ما التفّتْ جبهة الاستبداد والفساد على وعودها الإصلاحية والتزاماتها السياسية والاجتماعية عندما تمكنت من تفكيك الجبهة الأخرى بإزاء وسائل ليس المجال لذكرها الآن. ثم عادت أشد تسلطا وإفسادا كما لم تكن قبل الحراك، وكأنها تستغل - في سباق مع الزمن - حالة الإحباط والصدمة التي تسمى عندنا بالاستثناء المغربي، لتسترد هيبتها الاستبدادية وهيمنتها الاقتصادية والسياسية داخل المجالات العمومية.
وحيث أن النظام محتاج دائما لشهادة حسن السيرة، فإن أطرافا خارج البلاد يستعدون لإعادة ترتيب مصالحهم السياسية والاقتصادية والجيو- إستراتيجية لاكتساب الوضع المتقدم داخل المملكة الغنية طبيعيا، المفقرة اجتماعيا وسياسيا.
ولقد تضافرت أسباب من قبيل ما ذكر، لتطلق أيدي الاستبداد – الناعمة بفعل الحكومة الحالية للأسف – على ملفات كانت إلى الأمس القريب مجالا يمنع المناورة فيه، استكمال الخوصصة في الخدمات الأساسية، إزالة القواعد وتحرير الأسواق، ثم الحد من الإنفاق الاجتماعي: المقاصة، والتقاعد ثم الضمان الاجتماعي...
هذا الوضع الذي يذكر المركزيات النقابية بالسنوات العجاف التي تسمى سياسة التقويم الهيكلي، دفعها إلى إعلان تنسيق مواقفها ومطالبها تحت عنوان: «توحيد الحركة النقابية المغربية، قصد استعادتها لموقعها التاريخي الطبيعي في حركية الصراع الوطني والطبقي»[2] أو ما سماه الإعلام بكلمتين «الجبهة النقابية».
التقارب ومقوماته
أكيد أن ما تشتت في عقود لا يلتئم في أيام أو شهور، فرغم أن خطاب القيادات الثلاث ليوم 29 يناير 2014 وما بعده بالغ في التفاؤل وأعلن عن نيته في وحدة الإطارات النقابية ! فإن التقارب الثلاثي يراد له أن يلعب دورا يتناسب مع الظرفية السياسية والاجتماعية. لا نحاكم النيات ولا نتوسع في تحليل الأهداف غير المعلنة، بل نتوقف على رغبة المركزيات الثلاث في تنسيق مواقفها الكبرى وتوحيد جبهتها النضالية في معارك تلوح في الأفق...
هذه المطالب – على فَرَضِيّة مركزيتها في نية الداعين للتنسيق – هي في حد ذاتها أهداف إستراتيجية لا تستوعبها الآلة التكتيكية؛ فعوامل الارتكاز تتفاعل داخل الحقل الاجتماعي وتتعمق يوما بعد يوم بفعل الهجوم الممنهج على مكتسبات الأُجراء، حيث أضحى شرسا وغير مسبوق ولا ينفع معه التجاهل والانتظارية. كما أن القناعة باتت تتعمق بضعف الذات النقابية وبأهمية العمل المشترك نظرا لفاعليته في مواجهة الجبهة الأخرى أو حتى مقاومتها.
لذلك فالتقارب الثلاثي إما سيتطور في اتجاه جبهة نقابية تعيد ثقة الشغيلة المغربية في الفاعلين النقابيين جراء مشاكلهم التنظيمية وما تلاها من انشقاقات وإجهاز متتالي على المكتسبات والحقوق، وذلك عبر مسيرة طويلة من التنسيقات الموضوعية التي قد يُستعمل فيها سلاح الإضراب العام بما يشكله من تحدي حقيقي داخل الاتحاد المغربي للشغل، المركزية القوية في القطاع الخاص.
أو سيتلاشى - هذا التقارب - بفعل التموقعات الحزبية الظرفية والتي ستزيد من ضعف الإطارات النقابية ويدخلها في أزمة ثقة عميقة مع قواعدها وكوادرها ليس بسبب فشل الوحدة النضالية فقط، بل بسبب فشل ثلاث مركزيات مجتمعة - قدم بعضها مئات الشهداء في سنوات الرصاص – أمام حكومة ينعتها نوبير الأموي بـ "حكومة الدْراري"، وهذا ما سيُعرّف من لم يعرف بعدُ طبيعة من يمسك بخيوط اللعبة، وما سيعطي مشروعية إضافية لكل حراك غير مؤطر أو مضبوط اجتماعيا.
التقارب والخطوات الآنية
لن يعدم التنسيق النقابي الوسائل العملية لتحقيق أهدافه المعلنة، لكن – في تقديرنا- لا مناص لهذا التنسيق من الخطوات التالية:
أ‌.      تعميق التواصل والحوار في كل المستويات التدبيرية والقطاعية؛
ب‌. توحيد المطالب المركزية والقطاعية؛
ت‌. توحيد الهيئات التفاوضية مركزيا وقطاعيا.
التقارب أمام تناقضاته
عندما يتم تفعيل الخطوات - أعلاه - ستثور التناقضات الذاتية والموضوعية، وهي على كل حال غير مستغربة داخل التنظيمات الاجتماعية - التي تدبر المصالح الفردية والجماعية – والتي لها تاريخ حافل بالتجارب المريرة تمكنها من التعرف على أسباب التناقضات ومجابهة الإشكالات من قبيل:
أ‌.      الرفض واللامبالاة على مستوى المسؤوليات التحتية؛
ب‌. تدني مستوى التعبئة العمالية بعوامل الشك والارتياب؛
ت‌. دخول الأجندات السياسوية على الخط؛
ث‌. تشتيت التقارب بعوامل التنافس النقابي والتمثيلي (الانتخابات المهنية نوذجا).
التقارب وشروطه الاستراتيجية
نسجل أن قطاعنا النقابي كان شعاره منذ التأسيس "الجبهة النقابية الموحدة"، وهذا ما أكدنا عليه من خلال مواقفنا وبياناتنا ومبادراتنا الميدانية وسلوك إخواننا الممارسين. فهذا التنسيق الثلاثي إذن يعنينا نضجه الحثيث وتطوره، لذلك نقترح عليه أن يعمل على:
أ‌.      الانفتاح على مختلف الفعاليات النقابية؛
ب‌.الاتفاق على أرضية مشتركة تشكل موقفا موحدا من السياسات العمومية المتبعة في البلاد؛
ت‌. وضع ميثاق بين أطراف التنسيق لضمان الالتزام وتحمل المسؤولية في مختلف المحطات النضالية؛
ث‌.انتخاب هيئة وطنية لمتابعة العمل الجبهوي؛
ج‌.  تطوير آليات الحكامة والديمقراطية الداخلية خاصة قبل اتخاذ القرارات المصيرية؛
ح‌.  تطوير بنيات العمل المشترك محليا وقطاعيا؛
خ‌.  التواصل مع القواعد والانفتاح على معاناة الشغيلة؛
د‌.      تأسيس لجان محلية وجهوية للعمل الجبهوي.

الله الموفق


[1]  التصريح الصحفي للزيارة. موقع umt.ma
[2]  التصريح الثلاثي بتاريخ 29 يناير 2014

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟