المنظمات النقابية المغربية وحركة 20 فبراير



بعد طول غياب.. الشباب في الشارع
لم يشك شباب 20 فبراير، خاصة المتفائلون منهم، للحظة واحدة أن النموذج التونسي والمصري يمكن تحقيقه في المغرب، فبمجرد الخروج إلى الشوارع وإعلان مطالب قد تبدو - في مرحلة أولى- ذات سقف مقبول سياسيا واجتماعيا، سيتحول التظاهر في الشوارع إلى احتلال لها بسبب قمع القوات الأمنية، ثم إلى العصيان المدني الذي يؤزم الوضع السياسي في اتجاه تنازل المخزن لصالح مطالب الشباب التي سيعلو سقفها مع تطور الزخم الشعبي...
هكذا كان تصور الشبيبة المغربية التي خرجت في 20 فبراير - أو على الأقل قسم كبير منها[1]- لصيرورة التغيير من خلال تمثل النموذجين التونسي والمصري اللذان حققا تغييرا في قمة هرم النظام خلال وقت قياسي.
في المغرب وبعد ثمانية أشهر، لم يقع شيء مما كان يدور في مخيال الشباب، فبدأت تنظم الموائد المستديرة في جل مدن المغرب وقراه ليناقش شباب 20 فبراير آفاق حركتهم... أو بالأحرى ليبحثوا عن أسباب تأخر التغيير، من بين مجموعة كبيرة من المداخلات[2] الشبابية يمكن ملاحظة تكرار شكوى حول "تخلف الفاعل النقابي عن الانخراط في الحراك الاجتماعي" رغم إعلان بعض النقابات عن دعمها لحركة 20 فبراير، وفي نهاية اللقاءات يخرج الشباب بخلاصات وتوصيات أهمها تطوير أساليب الحراك ودعوة المركزيات النقابية للالتحاق بحركة الشباب.
البحث عن متغيب آخر
في مدينة الرباط أسس مجموعة من النقابيين، المنتمين سياسيا للنهج الديمقراطي ونقابيا إلى الاتحاد المغربي للشغل[3]، هيئة أطلقوا عليها اسم "نقابيو 20 فبراير"[4]، وفي البيضاء خرجت تنسيقية 20 فبراير بتوصية تأسيس لجنة نقابية تابعة لها، وفي مدن عدة يشارك النقابيون بأسماء هيئاتهم في التظاهرات أو بدعوات المقاطعة لاستفتاء 1 يوليوز أو لانتخابات 25 نوفمبر، غير ذلك لم تسمح قيادات النقابات الوطنية ببلورة موقف واضح من حركة 20 فبراير إما في اتجاه التبني أو الدعم الحقيقي للحراك الشبابي، كما فعلت في لحظات تاريخية من مسيرتها التاريخية، أو في اتجاه إعلان العداء لحركة الشباب أو حتى التحفظ على مطالبها وعلى خرجاتها المستمرة.
هذا التوصيف المكثف لا ينسحب على المركزيات النقابية التي هي تحت الوصاية السياسية للأحزاب التي أسستها، بحيث تقمصت قياداتها النقابية مركزيا ومحليا نفس مواقف أحزابها اتجاه الحَراك الشبابي؛ ونذكر على سبيل المثال بموقف الاتحاد العام للشغالين بالمغرب الذي يقوده الاستقلالي حميد شباط، حيث أصدر هذا الأخير بلاغا شديد اللهجة ضد "نية" الخروج في 20 فبراير، فقد عمم مكتبه التنفيذي بلاغا تحت عنوان "الوطن أولا.. الوطن أخيرا، مقاطعة كل دعوة للتظاهر خارج إطار الشرعية"، كما أعلن الاتحاد العام بكل وضوح رفضه لدعوة 20 فبراير، واعتبر دعوتها للتظاهر فعلا "خارج الشرعية القانونية، وهو نوع من التسيب الذي حاربه الاتحاد العام"[5].
نفس الموقف عبرت عنه الفدرالية الديمقراطية للشغل التابعة/المقربة من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية[6]، وهو الموقف الذي اتخذه الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب التابع/المقرب من حزب العدالة والتنمية، مع فارق أساسي هو أن مهمة جلد حركة 20 فبراير تُركت للقيادات الحزبية في حين صمتت النقابتين، بحيث لم نتمكن من إيجاد ولا حتى بيان موقع باسم إحدى النقابات الثلاث في إحدى التنسيقيات[7] الداعمة لحركة 20 فبراير في طول البلاد وعرضها.
فقط مركزيتان شذتا عن هذه القاعدة هما: الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل اللتان احتفظتا بمسافة تقترب حينا وتبتعد حينا آخر عن طرفي الصراع الاجتماعي والسياسي: 20 فبراير من جهة والمخزن في الجهة المقابلة.
لكن المركزيتين المذكورتين لم تدبرا موقفهما من الحَراك بنفس الكيفية لأسباب موضوعية وذاتية، فحين اكتفت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بفتح بعض مقراتها لشباب 20 فبراير والسماح لبعض فروعها المحلية بالانتماء لتنسيقيات الهيئات الداعمة لحركة الشباب، أعلن الاتحاد المغربي للشغل رسميا في بيانٍ لقيادته الوطنية عن دعم المركزية لمطالب شباب 20 فبراير لتقوم بعض فروعه المحلية والجهوية بالانخراط الكلي والفاعل في الحراك وفي تنسيقيات الهيئات الداعمة للشباب ما عجل ببروز تناقضات داخلية وصراعات حول مراكز القرار النقابي.
 متغيب نقابي أم مُغيب
لاشك أن الفصائل النقابية، التي توحدت مواقفها حول حركة 20 فبراير واختلفت فقط في طريقة التعبير عن تلك المواقف، كانت تراقب حركية الشارع المغربي وتتفاعل معها بتكتيكات معلومة؛ كما كانت تتابع مصير النقابات في كل من تونس ومصر بعد سقوط النظام هناك وتَكَشُّف ما كان في طي الكتمان، من تواطؤ وعلاقات مشبوهة وملفات ثقيلة من الفساد المالي والسياسي أبطالها رموز نقابية كانت قبل شهور عصية على المحاسبة أو حتى المساءلة.
في تونس ساندت القيادات النقابية في الاتحاد العام التونسي للشغل نظام ابن علي إلى آخر لحظة، لكنها لم تمنع أطرها المحلية من استيعاب حركة الشاب في المقرات النقابية وخارجها، ولعل هذا الموقف هو الذي شفع للاتحاد العام التونسي للشغل من ارتدادات الثورة التونسية.
أما في مصر فالأمر مختلف، حيث لعبت قيادات الاتحاد العام لنقابات عمال مصر دورا هاما في محاولة إحباط ثورة الـ25 يناير، ليس المجال هنا مناسبا للتفصيل في الموضوع، لكن وجب التنبيه إلى أن سقوط مبارك جر معه سقوط الحزب الحاكم والنقابة المشاركة في الحكم؛ وبُعيد نجاح الثورة بأيام أعلن النقابيون المبعدون من اتحاداتهم أنه "جاء اليوم الذي لابد أن يدفع هؤلاء ثمن لكل ما اقترفوه في حق العمال من جرائم.. نحن لن نسكت عن سارقي أموال العمال وسماسرة بيع القطاع العام. سنطاردهم بكافة الوسائل القانونية. فباسم شهداء الثورة الذين روت دماءهم الزكية طريقنا للحرية والذين تآمر عليهم حسين مجاور[8] وعصابته.. تارة بإصدار البيانات المعادية للثورة، وتارة أخرى بتأجير البلطجية للاعتداء على الثوار بميدان التحرير. لا تتركوا هؤلاء يفلتوا بجريمتهم ولتكن أول خطوة لنا على طريق الحرية هو الانسحاب الفوري من الاتحاد الحكومي الذي سقط مع سقوط النظام.[9]" فكانت النتيجة حلّ الاتحاد ومتابعة رموزه قضائيا...
فور إعلان سقوط نظام ابن علي، طارت إلى تونس قيادات نقابية في الاتحاد المغربي للشغل جناح عبد الحميد أمين للتعرف على التجربة التونسية... في نفس الوقت جمع المخزن خبراءه ومستشاريه في الداخل والخارج ليستفيدوا هم كذلك من التجربة التونسية، بنِيّة تجنب كرة اللهب؛ طبعا خوف المخزن لم يكن من القيادات النقابية بل من عدم قدرة هذه الأخيرة على ضبط قواعدها ضد أي تقارب محتمل بين الفاعل الشبابي والفاعل النقابي خاصة وأن بعض المركزيات بدأت ترسم لنفسها خطّا غير محسوب النتائج، في عرف المخزن طبعا.
إزاء ذلك حذرت بعض القيادات النقابية العربية من هذا التقارب في صيغةٍ حمّالة أوجه حيث قال أحمد محمد لقمان، المدير العام لمنظمة العمل العربية، ضمن أشغال اجتماع المجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب المنعقد بالدار البيضاء أن اجتماعهم الحالي ينعقد في "ظل ظروف غاية في الدقة تتفاعل فيها الأحداث بشكل متسارع، وتدفع بالعمال وحركاتهم النقابية ليكونوا في قلب الأحداث"[10].
لاحظ كيف يفرق مدير المنظمة بين العمال والحركات النقابية، فهو أول من يعلم أن النقابات العربية انفرط عقدها منذ عقود لتكون الفاعل الأساسي في التأطير والتثقيف العمالي والنضالي؛ وحيث إن الاجتماع كان في دار الاتحاد المغربي للشغل، فإن أول من التقط هذه " الحكمة " هو السيد الميلودي مخاريق، الذي قال، بعد النجاحات التي عرفتها خرجات 20 فبراير، وهو يوجه الخطاب لأعضاء اللجنة الإدارية للاتحاد المغربي للشغل: " لو كانت شبيبتنا العاملة[11] في عافيتها لدفعنا بها في قلب الحراك الشبابي "... لم يسأله آنذاك أحد من النقابيين عن طبيعة العمل الذي ستقوم به شبيبتهم العاملة في قلب الحراك الشبابي؟ لأن حالة شبيبتهم العاملة أغنتهم عن تصور مرامي السيد الأمين العام.          
كيف غُيب الفاعل النقابي
المخزن تلقف هو كذلك هذه الحكمة وتعامل مع الأمر بالسرعة اللازمة، أولا عندما جمع[12] عباس الفاسي رؤساء الأحزاب الموالية والمعارضة له، ليتشاوروا في قضايا سياسية ومنها الحوار الاجتماعي، ولا نتصور أن المبادرة جاءت من الوزير الأول بالنظر إلى الحالة السياسية التي طبعت المشهد السياسي قبل الحراك العربي، وبالنظر كذلك إلى موعد الاجتماع الذي التأم قبل موعد التظاهر بستة أيام فقط.
ستة أيام أخرى، لكن هذه المرة بعد 20 فبراير، سيجتمع[13] مستشار الملك برؤساء النقابات الخمسة بمبادرة من الملك وفي سابقة أولى في علاقة رئيس الدولة مع الرموز النقابية[14]، ولقد أشار عبد الرحمان العزوزي أن "المعتصم قال لنا أن كون النار ليست مشتعلة في بلادنا لا يفرض علينا عدم التحرك". وقد صرح العزوزي في ذات السياق أن "الأمناء العامين للنقابات سجلوا أن هذا اللقاء هو مناسباتي يأتي في ظروف معينة، وتمنوا أن تتلو هذه المبادرة، التي تعتبر الأولى من نوعها، مبادرات مماثلة باعتبار أنه « ما خاب من استشار » حسب تعبير المسؤول النقابي.[15]"
واضح من التصريحات المسربة أن الدولة كانت تسعى في اجتماعها مع النقابيين إلى الحفاظ على برودة الشارع، وواضح كذلك أن النقابيين كانوا يسعوون من جانبهم إلى مرتبة "المستشار الاجتماعي" مع رأس الدولة.. لا يُفهم من هذا التحليل أن النقابيين في المغرب هم خارج المؤسسات النيابية والتمثيلية، فإلى جانب تمثيليتهم في البرلمان والهيئات الإدارية الجهوية والإقليمية والمهنية، كانوا قد حازوا 24 مقعدا من أصل 99 في المجلس الاقتصادي والاجتماعي[16] الذي تم تنصيبه من طرف الملك بعد 20 فبراير بيوم واحد.
على مستوى رأس القيادات النقابية المغربية، تعتبر هذه المبادرة – الاجتماع مع مستشار الملك - أكثر من رمزية؛ وعلى مستوى رأس الدولة لاشيء كان يضمن حياد الفاعل النقابي، العمال والأجراء المحرومون، في معادلة الصراع بين المخزن وأعداء المخزن؟ اعتبارا أن الإطارات النقابية المحلية من مختلف الفصائل النقابية تتبادل التُهَم في ما بينها بسبب "خيانة العمال والتواطؤ مع أعدائهم الطبقيين".
الشهادات أكثر من أن تحصى، نذكر فقط بواحدة منها لعلاقتها بموضوعنا، توصل أحد القياديين النقابيين ببيان للكونفدرالية الديمقراطية للشغل يعبئ للخروج في 20 فبراير وللإضراب العام في اليوم الموالي، فعممه على البريد الالكتروني دون أن يعلم بأنه مزور، وكتب التعليق التالي: "الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تقرر المشاركة المكثفة في محطة 20 فبراير وتقرر خوض إضراب عام وطني يومي 21 و 22 فبراير. فتحية للكونفدراليات والكونفدراليين والخزي والعار لكل من ارتد وخان". عبد النبي العفوي مدينة بوعرفة..
انطلت الحيلة على السيد العفوي وأمثاله من المناضلين لأنه أخذ البيان من موقع الكونفدرالية الديمقراطية للشغل قبل أن تكتشف هذه الأخيرة أن موقعها تم اختراقه[17] وتم التصرف في بيان مجلسها الوطني ليخدم دعوات التظاهر في 20 فبراير.
ظاهريا تشير أصابع الاتهام إلى الشباب المتحفز للخروج والتظاهر، لكن لا يجب استبعاد مسؤولية جهات معادية للتظاهر عن هذا الاختراق لكونه يمثل ضربة لتقارب مفترض بين الشباب ونقابة الأموي؛ ولعل هذه علة من بين أخريات يمكن بها تفسير سكوت كل بيانات هذه المركزية عن دعم حركة 20 فبراير أو حتى الإشارة إلى الحركة بالاسم، مع استثناء وحيد هو عندما قررت نقابة الأموي المشاركة في انتخابات 25 نوفمبر فأصدر مجلسها الوطني بيانا[18] يدعم حزب الأموي "المؤتمر الاتحادي" ويطلب من الدولة "الكف عن مضايقة 20 فبراير".
حاول نقابيو يسار اليسار في نقابة الأموي جاهدين انتزاع الدعم لحركة 20 فبراير ولم يفلحوا، كما حاول رفاقهم في نقابة المخاريق ولم يفلحوا كذلك سوى في انتزاع سطر يتيم يوهم أن الاتحاد المغربي للشغل يدعم حركة 20 فبراير، وظل الأمين العام يلوح بهذا الدعم "الشفوي" في الوقت الذي يحارب فيه أعضاء أمانته الوطنية زملائهم في تيار النهج الديمقراطي لأنهم بدؤوا يُفَعّلون الدعم في مقرات الاتحاد وأجهزته الموازية ومنها اتحاد نقابات الموظفين الذي رفع شعارات 20 فبراير لتعبئة الموظفين لتظاهرات فاتح ماي كالآتي: "الاتحاد النقابي للموظفين مع حركة 20 فبراير في الكفاح من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية".
كذلك لم تستطع حركة 20 فبراير توحيد مسيرات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد المغربي للشغل رغم أنها تفاوضت مطولا مع قيادات المركزيتين على المستوى المركزي وأرسلت رسائل[19] إلى "الاتحادات المحلية للنقابات من أجل الخروج بشكل موحد في الاحتفالات بالعيد العمالي تحت يافطة 20 فبراير، وفي حالة عدم الاستجابة سيخرج شباب 20 فبراير بشكل منفرد دون الانحياز لأية جهة حفاظا على استقلالية الحركة".. في مدن قليلة أخذت القيادات المحلية مبادرة توحيد مسيرات فاتح ماي، لكن أغلب الاتحادات المحلية ظلت ملتزمة بقرار قياداتها المركزية بأخذ مسافة من الطرف الآخر.
كلفة تغييب الفاعل النقابي
لماذا تخاف الأنظمة الشمولية من الفاعل النقابي في معادلة الصراع السياسي مع أعدائها ؟ واحد من الداعين الشرسين لتحويل الطبقة العاملة في صيغتها المغربية إلى طبقة اجتماعية تحرر المجتمع لكن تحت القيادة السياسية للحزب الثوري الطليعي، يجيب على السؤال أعلاه بإزاء نفس الجهاز المفهومي، يقول[20]:" إن مشاركة الطبقة العاملة في حركة 20 فبراير ليست إضافة كمية فحسب، ولكنها أكثر من ذلك إضافة نوعية لأنها تمكن من استعمال السلاح الناجع وهو سلاح الإضراب العام الوطني الذي قد يشل الإنتاج ويعجل بالتغيير". ليس المجال مناسبا لتحليل هذه النظريات والمقاربات الجدلية التي تحجرت على سلفيتها رغم أن أصحابها يدعون التقدمية وأصالة العلم.. لكن يحسن بنا أن ننظر إلى "سلاح الإضراب" من زاوية أخرى..
مقارنة مع سنة 2010 تطور عدد الإضرابات المعلنة بنسبة 197% حيث شهدت 348 مؤسسة 474 حالة إضراب في سنة 2011 وقد تعَطّل ما مجموعه 38 ألف و275 أجير، بتطور عن السنة الماضية بلغ نسبة 167%؛ أكيد أن هذه الأرقام المعلنة في التقرير السنوي لوزارة التشغيل بعيدة كل البعد عن الأرقام الحقيقية، لكنها مع ذلك تشهد أن سنة 2011 كانت سنة مشتعلة بالنزاعات الجماعية في ميدان الشغل، وكذلك كانت النزاعات الفردية التي وصل عددها من خلال نفس التقرير إلى 32 ألف و904 منازعة فردية في ميدان الشغل، ومع ذلك لم تتطور هذه النزاعات إلى الإضراب العام الوطني الذي "يشل الإنتاج ويعجل بالتغيير" لماذا؟ سيجيب مرة أخرى أصحاب المنهجية الجدلية سالفة الذكر أن الدولة اشترت السلم الاجتماعية ونزعت بالتالي فتيل الانفجار الاجتماعي. كيف؟
في 16 فبراير أعلن عباس الفاسي أن حكومته قررت إضافة 15 مليار درهم لدعم صندوق المقاصة وذلك بعد أن خصص قانون المالية لسنة 2011 مبلغ 17 مليار درهم فقط، ليصبح بذلك 32 مليار درهم مجموع الغلاف المالي المخصص لهذا الصندوق. هذا القرار، الذي هو فوق سلطة الحكومة، جاء فقط بعد شهر ونصف من دخول قانون المالية حيز التنفيذ بمعنى أن مؤشرات الصندوق لم تشر بعدُ إلى الخصاص الذي يدفع بصانعي القرار إلى التسريع بهذا الضخ المالي، إلا إذا كان الهدف هو ضخ الطمأنينة في نفوس المستفيدين من الصندوق.
بنفس التكتيك بدأت الدولة تتعامل مع ملفات اجتماعية من قبيل التعجيل بإقرار نظام أساسي لكتاب الضبط الذين أوقفوا محاكم المملكة لمدة ستة أشهر متفرقة، ولقد عبر أحد "نواب الأمة" عن السبب الحقيقي لهذا التعجيل عندما كتب مقرر لجنة العدل والتشريع في مجلس النواب: "ومن النواب من اعتبر تدخل الحكومة بمثابة نزع الفتائل المشتعلة هنا وهناك... وتمنى أحد النواب لو كانت سياسة الإطفاء بمعنى النجدة بل اعتبر تدخل الحكومة في هذا الوقت بالذات هو يدعم صناعة سياسة طبقية... ولقد عبر الأعضاء (النواب أعضاء لجنة العدل) عن تخوفهم من أن يشجع هذا الإجراء فئات أخرى مستقبلا لتخوض إضرابات كالتي أقدمت عليها هذه الفئة، وقد يكبر هذا التخوف لو صدر مثل هذا التصرف عن الأطباء أو الممرضين الذين بدأت أصوات احتجاجهم تسمع من داخل البرلمان."[21]
بالفعل صدق تخوف "نواب الأمة" الذين يُفترض فيهم النيابة عنها وعن مصالحها، فخرجت إلى الشارع جلّ القطاعات العمالية والفئات المهنية تطالب بحقها في العيش الكريم، فاستقبلتها جحافل قوات القمع لتكسر الرؤوس قبل الأيدي والأرجل ولم يسلم من قمعها الأطباء والممرضين ورجال التربية والتعليم والأئمة والمعاقين وغيرهم كثير؛ أما الذين لم يخرجوا إلى الشارع فظلوا يهددون بذلك حتى جاءهم الوعد الصادق من المخزن الكذوب وقد تمثلوا ما يصطلح عليه في فكر أولسن[22] بنظرية "عابر السبيل المستتر".
إزاء ذلك فتحت الدولة "صناديقها السيادية" وتجاوزت ميزانيات عباس الفاسي المتقشفة منذ توليه للوزارة الأولى، فوافقت على تشغيل الشباب العاطل، وإعادة المطرودين، وأقرت زيادة 600 درهم لكل موظفي القطاع العام، ورفعت الحد الأدنى للمعاش المُقدم للمتقاعدين إلى 1000، ورفعت من نسبة ترقية الموظفين، وصادقت على الأنظمة الأساسية الخاصة بالفئات المتضررة من وحدة النظام الأساسي للوظيفة العمومية، وأعطت أوامرها للمؤسسات العمومية والخاصة ومجهولة الاسم لتنسج على المنوال فكانت النتيجة فوق ما كان يتصور أو يتمنى الأجراء:
منحة صافية لكل أجراء ميديتل بقيمة 40 ألف درهم، زيادة شهرية لأجراء مرسى المغرب بقيمة صافية 1500 درهم، زيادة شهرية لأجراء الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية بقيمة صافية تتراوح بين 1040 و1400 درهم، زيادة صافية لأجراء السكك الحديدية بقيمة 900 درهم صافية وإعادة تقييم منح أخرى وصلت لمبلغ 1500 درهم، زيادة 1550 لأجراء المجمع الشريف للفوسفاط، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأجراء المكتب الوطني للكهرباء، المكتب الوطني للماء الصالح للشرب، هيئة كتاب الضبط، وكالات التوزيع، ... هذه فقط عينة صغيرة من بعض المؤسسات وإلا فكل الأجراء استفادوا من زيادات تقل أو تزيد عن القيم المذكورة.
سيقول قائل والحالة كما أسلفنا: بسب هذا نجحت الدولة المغربية في نزع فتيل الحرب الاجتماعية. وكأن الأنظمة الشمولية الأخرى لم يخطر ببالها هذه المناورة ! وكأن الشغيلة المغربية كانت لتلتحق بحركة 20 فبراير أو تنتفض ضد المخزن إذا لم يتنازل هذا الأخير ويحقق بعض مطالبها ! وكأن الفصائل النقابية كانت لتجمع كلمتها وتدعو إلى الإضراب العام "لتوقف الإنتاج وتسرع بالتغيير" ! وكأن المخزن الذي يعطي باليد ويأخذ بالأخرى قد تجاوز منطقة الإعصار... 




[1]  مصدرنا في هذا الحكم هو ما كتب على حيطان الشباب العشريني في المواقع الاجتماعية.

[2]  يمكن الرجوع لتلك الندوات على صفحات التنسيقيات في المواقع الاجتماعية.

[3]  أنظر على سبيل المثال بيان الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي التابعة للإتحاد المغربي للشغل في الملحق التوثيقي.

[4]  كان اجتماعها الأول يوم الجمعة 7 أكتوبر 2011 بمقر الاتحاد الجهوي للرباط التابع للاتحاد المغربي للشغل.

[5]  أنظر نص البيان في الملحق التوثيقي.

[6]  يحسن التذكير بأن حركة 20 فبراير قد انطلقت قبل انتهاء ولاية حكومة عباس الفاسي التي كان جل وزراءها من أحزاب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية.

[7]  هناك بعض الاستثناءات المحتشمة التي لم تغير القاعدة؛ يُذكر هنا أن الفدرالية الديمقراطية للشغل بمدينة القنيطرة كانت قد التحقت بتنسيقية دعم حركة 20 فبراير بعد ثلاثة أشهر من انطلاق الحراك. 

[8]  رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر.

[9]  الهيئة التأسيسية للاتحاد المصرى للنقابات المستقلة ليوم 13/2/2011 عن موقع دار الخدمات النقابية والعمالية بمصر.

[10]  أنظر بشيء من التفصيل في يوميات الحركة النقابية.

[11]  إطار موازي للمركزية النقابية يضم النقابيين الشباب.

[12]  أنظر يوميات الحركة النقابية.

[13]  نفسه.

[14]  نذكر أن لقاءات لتقديم العزاء في الراحل الحسن الثاني كانت قد جمعت بعض الرموز النقابية مع الملك الحالي، قدم إزاءها محمد نوبير الأموي الشهادة التالية: "خرجت بانطباع كبير، وهو أن هذا الملك هو هدية من السماء إلى المغرب. وما قلته لإخوتي في المكتب السياسي، أنه إذا لم يكن للاتحاد الاشتراكي من فضل أو سجل يفتخر به، هو أنه ساهم في خلق الشروط لمجيء ملك كالملك الحالي الذي هو هبة من السماء لنا جميعا. وهذا انطباعي الأولي ولا أدري ما يخبئه القدر؟" ص 210 من كتاب "عن قرب، حوارات مع نوبير الأموي " منشورات الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. مارس 2001

[15]  يومية "بيان اليوم" بتاريخ 3 مارس 2011

[16]  أنظر بشيء من التفصيل في يوميات الحركة النقابية.

[17]  أنظر يوميات الحركة النقابية.

[18]  أنظر البيان في الملحق التوثيقي.

[19]  أنظر في الملحق التوثيقي لنموذج رسالة تنسيقية 20 فبراير لمدينة طنجة التي وجهتها للفاعلين النقابيين بالمدينة.

[20]  عبد الحميد أمين، قيادي حقوقي ونقابي في الاتحاد المغربي للشغل، بمنسابة ندوة فكرية بالرباط يوم 19 غشت 2011 تحت عنوان " دور الطبقة العاملة في حركة التغيير بالعالم العربي".

[21]  مقرر النص التشريعي السيد محمد إد موسى دورة أبريل 2011. لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب. 


[22] Mancur Olson. La théorie du passager clandestin in : Logique de l’action collective.

لمزيد من النصوص التحليلية أنظر كتابنا

 

Commentaires

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟