إصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب والخيارات المتاحة



تقديم:
بات في حكم الحتمي أن الدولة المغربية في حاجة مستعجلة إلى قرار استراتيجي لضمان استمرارية أنظمة المعاشات المتعلقة بأجراء الوظيفة العمومية ومستخدمي المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية.
قرار، لاشك ستكون له تبعات مكلفة على الاقتصاد الوطني في المدى المنظور بسبب الأزمات الاقتصادية المركبة التي بدأت بالظهور، لكن الاستمرار في أرجحة المشكل وتأجيل الحسم يوشك أن يعمق العجز أكثر وأن يجعل الحل أعلى كلفة.
لكن الأخطر من ذلك كله، أن تفضي إشكالية عجز صناديق التقاعد إلى تبديد السلم الاجتماعي الذي أصبح - أكثر من أي وقت مضى- مهددا بأزمات بنيوية في ظل "التغذية الراجعة" للحراك المجتمعي بعد انطلاق الربيع العربي.
السياق التاريخي:
إن إشكالية أنظمة التقاعد ليست وليدة اليوم، رغم أن الحكومات المغربية المتعاقبة لم تنتبه إلى خطورة المشكل إلا قبل 14 سنة على أبعد تقدير، هذه الحكومات اكتفت بمعالجات سطحية، جملة من التدابير والإجراءات الاستعجالية، التي لم تنفذ إلى العمق البنيوي للمشكل الذي أصاب صناديق التقاعد بالمغرب لأسباب يتداخل فيها الذاتي والموضوعي.
انطلاقا من يونيو 1997، تاريخ أول تدقيق اكتواري ومالي لجميع صناديق التقاعد، مرورا بدجنبر 2003، تاريخ أول مناظرة وطنية لإصلاح أنظمة التقاعد، وصولا إلى أبريل 2010، تاريخ إصدار تقرير مكتب الخبرة الدولي أكتوريا حول إصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب، تشكلت اللحظات التاريخية المحورية للوقوف على حجم الإختلالات التي أنهكت صناديق التقاعد وهددتها بالنضوب المالي وبالتالي التوقف الاضطراري للمنظومة في شموليتها.
خلال هذه المرحلة جربت كثير من المقاربات المالية والتدبيرية للحيلولة دون تردي العجز المالي لأنظمة التقاعد من قبيل المقاربة التشاركية بين الحكومة وممثلي المأجورين من نقابات أكثر تمثيلية وأرباب العمل في إطار ما بات يعرف "باللجنة الوطنية لإصلاح أنظمة التقاعد" تحت رئاسة الوزير الأول انطلاقا من 2004، واللجنة التقنية لنفس الغرض، لكن اللجان المذكورة لم تتوافق "بَعدُ" على الحسم في اعتماد إحدى السيناريوهات لتفادي الأزمة.
كما رافق هذا الملف ترسانة قانونية وتنظيمية يمكن إجمالها في 10 قوانين متعلقة بإصلاح أنظمة التقاعد وأربع مراسيم تطبيقية لذات الغرض، لكن البعد التنظيمي والقانوني يظل غير حاسم في غياب القرار السياسي الذي يأخذ بعين الاعتبار البعد الاقتصادي من دون إغفال جوهر الإشكال الذي هو العامل الاجتماعي لأن المستهدف هو الإنسان الذي وصل إلى أرذل العمر بحيث يحتاج - أكثر ما يحتاج إليه-  إلى الكرامة الإنسانية بعد عقود من العطاء...    
الإشكاليات، وأبعادها:
تجاذب ثلاثي يُعنى به موضوع التقاعد، كيف نستوفي الشرط الاجتماعي، المتمثل في عدالة سن التقاعد وراتب المعاش الآني، دون التقيد بالظرفية المالية للواقع الاقتصادي العام أو بالعجز البنيوي لصناديق التقاعد، من أجل إصلاح الإطار القانوني المناسب للتطور"أو التراجع" الحاصل في ميدان الشغل من جهة وللتطور "أو التراجع" الحاصل في البنية الديمغرافية وفي التدرج الاجتماعي من جهة أخرى، كل ذلك من أجل ضمان عدالة اجتماعية مستديمة أي لا يستفيذ جيل على حساب آخر؟
هذه باختصار الإشكالية المحورية للموضوع، والتي تتناسل من خلالها إشكاليات فرعية من قبيل:
إشكالية التوازن، في نظام التقاعد التي يعتمد على مبدأ التوزيع (principe de répartition)  وإشكالية أخطار التقلبات المالية في نظام التقاعد الذي يعتمد على مبدأ الرسملة (principe de capitalisation). وأي المنهجيتين أصلح للواقع المغربي؟
إشكالية تراجع وعاء المساهمات في صناديق التقاعد، وهل هي بسبب التحولات الديمغرافية (تحسين معدل الأمل في الحياة وانخفاض مؤشر الخصوبة من جهة، وعن تناقص وتيرة نمو المساهمين مقابل ارتفاع متزايد لأعداد المتقاعدين من جهة أخرى) وتقلبات سوق الشغل كما تشير المقارابات الرسمية؟ أم أن السبب هو في الحقيقة هيكلي وليس ديمغرافي كما تذهب إلى ذلك المقاربة الاجتماعية التي تستدل بنسبة 2,5 مليون عامل غير مسجلين في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي إضافة إلى استشراء البطالة والهشاشة و تدني الأجور. إضافة لذلك، عدم التزام الحكومة باعتبارها مشغلا في الوظيفة العمومية حيث لم تؤد مساهماتها خلال تسييرها المباشر للصندوق طيلة أربعين سنة (من 1956 إلى 1996). وطوال هذه الفترة، تراكمت عدة مليارات من الدراهم أجملتها الحكومة الحالية في 11 مليار ستؤديها للصندوق على شكل سندات للخزينة...؟
إشكالية التوزيع العادل للمعاشات، تحت ضغط التباين الحاصل في التدرج الاجتماعي للأجراء، أو بسبب اختلال ميزان العدل الاجتماعي في الزمان بحيث يُنشؤ هذا الاختلال تنازعا وصراعا بين جيل المتقاعدين وجيل المساهمين. بحيث أن فرض تضحيات إضافية على العاملين "مزيد من الإقتطاعات" و على المتقاعدين "تقليص المعاش" لا يحل الأزمة بل يتسبب في خفض لمستوى معيشة هؤلاء جميعا ومزيدا من تقليص قسم الثروة الاجتماعية المنتجة العائد إلى الأجراء.
إشكالية تدبير وحوكمة صناديق التقاعد كمؤسسات عمومية ذات طابع اجتماعي تحت الوصاية الإدارية لوزارة التشغيل أو وزارة المالية أو حتى لصندوق الإيداع والتدبير، وهي كذلك مؤسسات للسيولة وللإدخار على المدى المتوسط يتم استثمار سيولتها في المشاريع الكبرى أو الأحتياجات الطارئة. كما تعتبر هدفا سهلا للنهب في ظل غياب للرقابة المباشرة وللمحاسبة الفعالة أوالضرب على يد العابثين بالمال العام لإرجاع المال المنهوب.
إشكالية الشراكة الثلاثية بين الحكومة وممثلي الأجراء وأرباب العمل، هل هي قناعة مبدئية تشترط من أجل نجاحها لمبادئ الحكامة الجيدة من قبيل سمو القانون والشفافية والتدبير التشاركي، أم هي مجرد مناورة ذكية لانتزاع فتيل الاحتقان الإجتماعي؟    

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟