تاريخ العمل النقابي المغربي من خلال مذكرات محمد اليازغي



نشرت جريدة المساء المغربية ابتداء من عددها 1514 الصادر بتاريخ 3 رمضان 1432 الموافق لـ4 غشت 2011 مذكرات السيد محمد اليازغي، عبر مجموعة من الحلقات التي أعدها الصحافي محمود معروف؛ قدم فيها محمد اليازغي في مذكراته شهادات حول نشأة الحركة النقابية المغربية وتطورها عبر مراحل زمنية يتداخل فيها النقابي مع السياسي، تحالفا (الحزب/النقابة) موضوعيا أو افتراقا وعداء وانشقاقا فتشرذما.
لن نقوم بتحليل هذه الشهادات أو عرضها على منهجية البحث التاريخي لتحديد صحة الوقائع ومصداقية النتائج، حسبنا أن نستعرض الأحداث والقضايا التي ألمح إليها صاحب المذكرات ونقدمها في سياقها الزمني ثم نترك للقارئ اللبيب فسحة للتأمل واستخلاص درس التاريخ بخصوص مرحلة ظلت تمثل فراغات توثيقية لأسباب غير معروفة.
كما ننبه إلى عدم تدخلنا في نصوص صاحب المذكرات، كما نشرتها الصحيفة، وإنما اكتفينا بوضع العناوين المناسبة للشهادات.    
       
1.    العمل النقابي في زمن الحماية
قال اليازغي: "ويذكر في هذا السياق أن المغرب كانت له سمة خاصة تميزه عن باقي المستعمرات الفرنسية وهي أنه كان البلد الوحيد الذي منعت فيه سلطات الحماية قيام تنظيم نقابي وطني، في الوقت الذي كانت تسمح فيه بذلك في الجزائر وتونس مثلا، وبالمقابل كانت في المغرب فروع للنقابات الفرنسية تقتصر عضويتها على الفرنسيين. وقد اختار حزب الاستقلال أن ينخرط المغاربة في النقابات الفرنسية في بداية الخمسينيات، وكان عبد الرحيم بوعبيد مسؤولا في اللجنة التنفيذية عن العمل النقابي".

2.    أول أمين عام لأول نقابة.. ليس بن الصديق
وقال: "وعند تأسيس الاتحاد المغربي للشغل تحت حماية وحراسة المقاومين للاجتماع في مارس 1955 بدرب بوشنتوف في الدار البيضاء، تم انتخاب الطيب بن بوعزة أمينا عاما، لكن المحجوب بن الصديق، الذي لم يحصل على نفس الأصوات، ألح على ألا يكون مساعدا لأحد، وتدخلت قيادة الحزب لإقناع الطيب بن بوعزة بالتنحي وترك المكان للمحجوب بن الصديق، وهو ما تخوف من نتائجه إبراهيم الروداني، وسيبعد بن بوعزة إلى الخارج سنة 1959 كسفير في يوغسلافيا ثم في السويد. وعندما ستظهر في الستينيات مشاكل قيادة الاتحاد المغربي للشغل مع الديمقراطية الداخلية ويظهر الانحراف البيروقراطي، سيبدي كل من المهدي وعبد الرحيم ندمهما على دعمهما للمحجوب بن الصديق سنة 1955 ضدا على الأمين العام المنتخب الطيب بن بوعزة".

3.    موقع النقابة في علاقة اليسار بالقصر
وقال: "وبتعاون بين المحجوب بن الصديق والفقيه محمد البصري وولي العهد، كلف محمد الخامس عبد الله إبراهيم بتشكيل الحكومة، وبذلك تمكن ولي العهد من إبعاد مرشحين أساسيين عن رئاسة الحكومة وهما عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، لكن قيام حكومة عبد الله ابراهيم شكل، رغم ذلك، التوافق الثنائي بين المؤسسة الملكية والجناح اليساري لحزب الاستقلال.
كان (ولي العهد) يسعى إلى شق الحزب وإبعاد المهدي بن بركة أو عبد الرحيم بوعبيد عن رئاسة الحكومة، واختيار شخصية في خدمة قيادة الاتحاد المغربي للشغل".

4.    الانشقاق عن حزب الاستقلال نعم.. لكن لكل حساباته
وقال: "كانت لدى الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل المحجوب بن الصديق رغبة قوية في انقسام الحزب (الاستقلال)، مشاطرا بذلك رأي الجناح التقدمي داخل القيادة الحزبية، لكن حسابات أخرى هي التي كانت تتحكم في دفعه باتجاه الانقسام، تمثلت في سعيه إلى أن يكون الحزب الجديد تابعا للنقابة، والرأي الذي كان يعبر عنه آنذاك في عدد من اللقاءات هو أنه لا بد من القطيعة وبكيفية فوقية".

5.    من يقرر في البيت الحزبي
وقال: "كان ولي العهد (الحسن الثاني) يسعى دائما إلى إضعاف حزب الاستقلال إلى درجة أنه لما فاتحه المحجوب بن الصديق في يوم من الأيام -كما قيل لنا- في موضوع الأزمة داخل حزب الاستقلال، رد عليه بالدارجة «فرقعوا هذه الدلاحة»".

6.    من يمثل الطليعة.. الحزب أم النقابة؟
وقال: "في تلك المرحلة، كان المهدي بن بركة يعتبر أن الحزب بحاجة إلى الوحدة، فعند تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تم الاتفاق على أن تساعد قيادة الاتحاد المغربي للشغل بكل قوتها في قيام وتفعيل الاتحاد، وعلى أن يلعب العمال دورا أساسيا داخل الحزب حتى تكون الطبقة العاملة واجهة النضال الجماهيري. ولما طرد عبد الله إبراهيم من الحكومة، ظهر أن البلاد تسير في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كانت تسير فيه من قبل... لذلك كان المطلوب هو الدخول في مواجهة قوية مع الحكم بسبب هذا الانزلاق الذي تسير البلاد في اتجاهه، لكن قيادة الاتحاد المغربي للشغل اختارت سياسة المهادنة في تعاطيها مع الحكم، أولا على مستوى الشكل الذي تناضل وفقه، حيث جمدت كل أشكال الاحتجاج ما عدا ما لم تستطع الوقوف في وجهه من نشاطات عمالية محلية أو عفوية، ثم لجأت إلى تحجيم دور القواعد الذي ستظهر آثاره بعد ذلك، حيث لم يكن هناك ترسيخ للديمقراطية الداخلية داخل النقابة. كما بدا أسلوب المهادنة في سلوك الاتحاد الوطني، من جهة أخرى، من خلال منعه أي نشاط وسط الطبقة العاملة رغم أنه، مبدئيا، اتحاد كل القوات الشعبية (من عمال وفلاحين وتجار صغار ومستخدمين وأطر وطلبة ونساء).
كان الخلاف حول النقاط المتعلقة بدور المركزية النقابية في علاقتها بالتنظيم الحزبي، حيث كان المهدي بن بركة يعتقد أن العمل الوحدوي مع الاتحاد المغربي للشغل في إطار الاتحاد الوطني يعطيه إشعاعا ويوسع من شعبيته. وكنا نرى أن الطبقة العاملة يجب أن تشارك كجزء من القوات الشعبية وحركة التحرر الوطني".

7.    استراتيجية الاتحاد الاشتراكي لتأسيس تنظيمه النقابي
وقال: "وقد ساهمت اللجنة العمالية التابعة للاتحاد الاشتراكي في التوجيه وتوحيد الرؤى بين الحزبيين العاملين في مختلف النقابات، كما ركزت على التنظيم العمالي داخل المؤسسات، ومتابعة الملفات الاجتماعية في مختلف قطاعات الوظيفة العمومية والخدمات والمؤسسات العمومية والمؤسسات الإنتاجية والخدماتية للقطاع الخاص. وجاءت مناسبة انتخابات اللجان الثنائية لممثلي العمال سنة 1976، فترشح الاتحاديون كمستقلين لهذه الأجهزة، وحققوا نجاحا كبيرا في عدد من القطاعات، إذ لم ينحصر ذلك النجاح فقط في قطاعات التعليم والبريد والصحة، بل تعداها إلى الفوسفاط والطاقة والسكك الحديدية وبقية مؤسسات القطاع العام، لتصبح لدى النقابيين الاتحاديين شرعية قانونية لأنهم صاروا ممثلين للعمال في اللجان الثنائية أو لجان السلامة في عدد من المؤسسات. وهذا سيدفع إلى الإعداد لتأسيس نقابات مستقلة عن الاتحاد المغربي للشغل في قطاعات الفوسفاط والمعادن والطاقة والسكك الحديدية والصحة، بالإضافة إلى التعليم والبريد، وهي النقابات التي ستؤسس في نوفمبر 1978 الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كاستكمال لنضالها النقابي. وقد جاء اختيار هذا الاسم بدافع من الرغبة في الابتعاد عن التجربة السابقة، لأن الكونفدرالية معناها أنها ليست مركزية في تدبيرها وقيادتها لنضال الطبقة العاملة، بل هي تجمع لعدة نقابات وطنية، لكل منها استقلاله في اتخاذ القرار، سواء تعلق الأمر بالحوار أو الإضراب أو صياغة الملف المطلبي، وهذا ما سيعطي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ولسنين طويلة، الإشعاع الكبير وسيمكنها من إرجاع الثقة إلى الطبقة العاملة في النضال النقابي ونجاح المبادرات النضالية القطاعية والوطنية، .. في 1978، استكملنا عملنا التنظيمي الأفقي، أي الإقليمي والمحلي، والعمودي، أي القطاعي. وبالتالي، عاد الإشعاع الاتحادي في القطاعات العمالية، وهو ما يوضح الدور المتميز الذي لعبته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في النهضة النقابية بالمغرب".

8.    تقارب حزبي.. تقارب نقابي
وقال: "... كان ذلك (التنسيق بين الاتحاد والاستقلال) ضمن مخطط للتنسيق بين القوى الديمقراطية، فإلى جانب المشاورات بين الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال في البرلمان كان هناك تنسيق على مستوى المركزيات النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب.
... وقد كانت هذه الظروف مناسبة بالنسبة إلى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل للخروج من العزلة، لأن مهمتها ليست فقط الانفتاح على القواعد العمالية لتشارك مشاركة صحيحة داخل نقابتها ونضالاتها، وإنما المطلوب منها أيضا الانفتاح على الآخر. وهكذا بدأت الاتصالات مع الاتحاد العام للشغالين بالمغرب والاتحاد المغربي للشغل، لكن لم يستجب إلا الاتحاد العام للشغالين، ليبدأ التنسيق ويصل في غضون سنوات إلى تنظيم تظاهرات فاتح مايو بشكل مشترك.
... وسيبدأ بالتنسيق بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين، وسيتعزز هذا التنسيق بإضراب ديسمبر 1990 الذي دعت إليه النقابتان والذي سيعرف مواجهات دموية في فاس وطنجة، حيث قامت السلطة بتدخل زجري عنيف، وفاء لعاداتها في قمع أي حركة اجتماعية تعبر عن نفسها، كما حصل سنوات 1965 و1979 و1981 و1984، واستخدمت السلاح لقمع المضربين وتكسير الإضراب عوض ترك المضربين يواصلون احتجاجهم بطرق سلمية. وستضطر السلطة إلى القبول بلجنة لتقصي الحقائق شكلها البرلمان، ستبين أن عدد القتلى وصل إلى 24 قتيلا مفندة بذلك ما كانت تدعيه الحكومة من عدم سقوط قتلى أثناء المواجهات".

9.    مرة أخرى من يتبع لمن.. النقابة أم الحزب؟
وقال: "لم يعرف الاتحاد الاشتراكي، في مساره النضالي، مؤتمرا صاخبا كالمؤتمر الوطني الخامس(1989)، فقد مر في أجواء متوترة لأن نوبير الأموي أعد خطة للسيطرة على الاتحاد الاشتراكي، حيث عبأ نفسه قبل المؤتمر وقام بحملة ممنهجة وسرية في عدد من الأقاليم، كما تعبأ جل المناضلين الذين كانوا يعملون معه في المركزية النقابية، بطبيعة الحال، في هذا الاتجاه. وقد كانت الخطة موجهة، عمليا، ضدي شخصيا وضد الكاتب الأول وضد عدد كبير من أعضاء اللجنة المركزية الذين لا يمكن أن يقبلوا بأن يصبحوا أدوات في يد الكاتب العام للكونفدرالية الديمقراطية للشغل. وكانت لي قناعة قوامها أنه سيكون خطأ كبيرا إذا أبعد الحزب عن المسؤولية مناضلين لهم مصداقية وإشعاع. كانت الأزمة متمثلة، أولا، في مناقشة قضايا التنظيم، ومنها مقترح وضعه عبد الرحيم بوعبيد، وطلب الأموي أن يتم التصويت عليه فرفض بالأغلبية.
... وبعد انتهاء المؤتمر وفي أول اجتماع للجنة المركزية لانتخاب المكتب السياسي، سعى الأموي إلى أن يكون له في المكتب السياسي ثقل لقناعته بأن وجود الموالين له بكثافة كأعضاء في القيادة هو الطريق الأسلم للاستيلاء على الاتحاد.
... إذا أردنا الحديث عن الخلاف مع الأموي، فإنه في العمق خلاف حول استراتيجية النضال الديمقراطي، لكنه مغلف بغطاء المشاكل التنظيمية. نوبير الأموي لم يستطع مواجهة الخط السياسي المرحلي الذي يسير عليه الاتحاد، خط المشاركة في المؤسسات على علاتها والحوار والتعاون مع الأحزاب الديمقراطية الأخرى، وأصبح الهاجس عنده هو التحكم في الجهاز الحزبي ليصبح الاتحاد الاشتراكي أداة بيد قيادة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وفي ذلك إحياء للخطة التي كان ينتهجها المحجوب بن الصديق بالنسبة إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الستينيات.
... فاجأنا نوبير الأموي بدعوة إدريس البصري إلى حضور المؤتمر الوطني (مارس 1997) للكونفدرالية الديمقراطية للشغل بل وإعطائه الكلمة، في حين أنه امتنع عن قراءة البرقية التي بعث بها عبد الرحمن اليوسفي إلى المؤتمر.. لم نجد تفسيرا.. سواء لتوجيه الدعوة إلى الوزير أو لإعطائه الكلمة في الجلسة العامة، لم يكن أمرا يبعث على الارتياح لأننا كنا نعرف مناورات وزير الداخلية آنذاك. وعبر المكتب السياسي عن تذمره من هذا الحضور، بل انسحب الحبيب الشرقاوي من قاعة المؤتمر بمجرد ما أعطيت الكلمة للوزير".

أو لإعطائه الكلمة في الجلسة العامة، لم يكن أمرا يبعث على الارتياح لأننا كنا نعرف مناورات وزير الداخلية آنذاك. وعبر المكتب السياسي عن تذمره من هذا الحضور، بل انسحب الحبيب الشرقاوي من قاعة المؤتمر بمجرد ما أعطيت الكلمة للوزير".

10.    نفس الأمراض نفس العلاج.. الانشقاق
ثم قال اليازغي: "المشكل في النهاية كان مشكلا داخليا.. هو في الواقع تكرار لتجربة الحزب مع النقابة، الاتحاد المغربي للشغل، بجعل المركزية النقابية، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، هي الموجهة للحزب وليس العكس. وفيما بعد ستظهر داخل الكونفدرالية نفس الأزمة التي عرفها الاتحاد المغربي للشغل والمتمثلة في استبعاد الحياة الديمقراطية داخلها، مما سيؤدي إلى قيام حركة تصحيحية أخرى تمثلت في تأسيس الفيدرالية الديمقراطية للشغل".
 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟