ماي 2011: تخليد عادي في لحظة غير عادية



تقديم
كثيرٌ من الفاعلين المغاربة كانوا يأملون أن تكون خرجات فاتح ماي لسنة 2011 مختلفة عن مثيلاتها في السنوات الفارطة، ولم لا تُشكّل انعطافا نحو المطالب السياسية التي رفعها الشباب المغربي؛ على اعتبار اللحظة التاريخية التي تَولّد عنها ما أضحى يسمى "بالربيع العربي" والذي شهد سقوط أنظمة ضاربة في الاستبداد والشمولية.
في المقابل عملت أطراف أخرى وسنحت لها عوامل ذاتية وموضوعية على أن يظل فاتح ماي 2011، وبشكل استثنائي، وفيّاً لخطه الاحتفالي والفولكلوري وأن تُحيّد النقابات المهنية والعمالية من الصراع الدائر بين "حركة" المخزن و"حركة" 20 فبراير منذ انطلاقها في نفس التاريخ.

قبيل ثورة الياسمين
علاوة على الانتفاضات الفئوية والجغرافية "المعتادة" والتي تخمد بنفس سرعة اشتعالها، لم يكن شيء يلوح في الأفق الاجتماعي والسياسي بحيث يُخرج المركزيات النقابية المغربية من رتابتها البيروقراطية ومطالبها الفئوية والقطاعية، والتي تَعمق تشرذمها بتجميع حزب الأصالة والمعاصرة لقيادات نقابية، من الصف الثاني والغاضبين على مصالحهم الذاتية والفئوية، حول مشروع مركزية نقابية تابعة لحزب صديق الملك.
ولا أدل على ضعف المركزيات "التاريخية" وهوانها على صناع القرار السياسي من مهزلة الحوار الاجتماعي للسنة الفارطة (2010) حيث أعلن الوزير الأول، عباس الفاسي، من جانب واحد عن نتائج الحوار الاجتماعي دون أن تُوقِع معه المركزيات النقابية "الأكثر تمثيلا" على التفاهات/التفاهمات الاجتماعية التي كانت موضوع جولات ماراطونية لممثلي الحكومة والنقابات. نعم استنكرت المركزيات، ومنها نقابة حزب الوزير الأول، وشجبت، وهددت ... ثم استكانت إلى جانب الدعة والسكون بعد هيجان التهديد والاستنكار.
لم تكتفي حكومة عباس الفاسي بهذه الضربة التي وجهتها "لشركائها الاجتماعيين" بل خرجت عليهم بمشروع قانون الإضراب الذي انتهت من إعداده[1] منذ 11 نونبر 2009 وأشهرته أمامهم كرد سياسي على تصعيد حركة إضراباتهم الفئوية والقطاعية، والتي تحمل عناصر المزايدات السياسية أكثر منها عناصر لتعديل ميزان القوة ضد حكومة قيل أنها أضعف حكومة في تاريخ المغرب.
وبلغت المزايدات السياسوية أوجها عندما ولّت نقابة الأموي ظهرها للواقع الاجتماعي المرير، وأعلنت[2] في "خطوة استباقية" عن توقيف علاقات التعاون مع المنظمات النقابية الإسبانية بسبب "موقفها العدائي اتجاه المغرب ووحدته الترابية" !.

بعد إعلان التظاهر في 20 فبراير
شهر بعد هذا الإعلان الغريب، وبعد أن أصبحت دعوات التظاهر في 20 فبراير حديث المغاربة على المواقع الإلكترونية وبعض الجرائد الوطنية، تعود الكونفدرالية الديمقراطية للشغل إلى نفس النغمة وهي "التحذير من المخاطر التي تهدد القضية الوطنية الأولى"[3] دون أن تتمكن نقابة الأموي من تجاهل الأحداث الجارية فوجهت التنويه للشعبين التونسي والمصري لنجاح ثورتهما!
رغم المتغير العربي والمغربي المتمثل في تجدر الحراك الاجتماعي، والذي أطاح إلى شهر ماي 2011، برأسين من رؤوس الأنظمة العربية الشمولية في تونس ومصر واشتد الخناق على رؤوس أخرى في كل من ليبيا وسوريا واليمن والبحرين...، فإن المركزيات النقابية في المغرب ظلت وفية لحالة الكُمون أو التقهقر التنظيمي والمطلبي، وكأنها ليست معنية بما يموج في الواقع المغربي الذي بلغ أوجه في أواخر شهر أبريل من نفس السنة حيث خرج المخزن من "الاستثناء" المزعوم إلى منطق العصا الغليظة فكانت النتيجة شهداء في مقتبل العمر، كان أخرهم آنذاك الشهيد كمال العماري من أبناء مدينة آسفي.
ليس قصدنا في هذا المدخل أن نبحث أو نحلل تعامل المنظمات النقابية المغربية مع الحراك الشبابي، فهذا موضوع الفصل الموالي، إنما نهدف إلى عرض رسائل النقابات إزاء شعارات 20 فبراير إبّان محطة فاتح ماي؛ رسائل لا تشترط أن تكون بالتصريح أو بالإعلان من طرف فصيل نقابي بأنه مع 20 فبراير أو ضدها، بل حتى الصمت والتجاهل يعبران عن منطق لغوي بليغ، وهذا شيء معلوم في فلسفة الخطاب السياسي.
لماذا فاتح ماي تحديدا؟ لأنه يخلد للعيد الأممي للعمال بما يحمل من معاني المقاومة والهجوم على مواقع الفساد والاستبداد والضبط في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ولأن النقابات ما فتئت ترفع شعارات التنمية والانتقال الديمقراطي وتخليق الحياة العامة، ثم تنسحب من ساحة الصراع الاجتماعي بدعوى غياب الفاعل التاريخي المتمثل في "القوات الشعبية"؛ حيث لوحظ بوضوح - بعد انطلاق حركة 20 فبراير- أنه حينما ظهر الفاعل التاريخي وأعلن عن نفسه وعن مطالبه غابت النقابات عن اللحظة التاريخية ورجعت القهقرى.

نتائج فوق العادة لحوار اجتماعي استثنائي
مناسبة الاستثناء هو أن المركزيات النقابية كانت قبل الحراك الشبابي منشغلة في "حرب" المنهجيات وآليات الحوار الاجتماعي مع حكومة عباس الفاسي، وإذا بها "تحظى بشرف" الحوار مع مستشار الملك في سابقة هي الأولى من نوعها تمنى على إثرها النقابيون أن لا تكون الأخيرة وذكروا المستشار المعتصم بالحديث الشريف "ما خاب من استشار"[4].
لم يتوقف سخاء الدولة عند هذا "الشرف" بل تعداه إلى شرف آخر، حين تجاوزت الدولة سقف الملفات المطلبية للمركزيات النقابية وعممت زيادة صافية في أجور الموظفين وصلت إلى 600 درهم كما قررت "الزيادة في الحد الأدنى للأجر بنسبة 15 في المائة، 10 في المائة منها ابتداء من يوليوز 2011 و5 في المائة ابتداء من يناير 2012، ورفع حصيص الترقية الداخلية إلى 30 في المائة ابتداء من يوليوز 2011 و33 في المائة ابتداء من يناير 2012". كما التزمت الحكومة "بالرفع من الحد الأدنى للمعاش ليصل إلى 1000 درهم لمتقاعدي القطاعين العام والخاص، والمصادقة على الاتفاقية الدولية رقم 87 المتعلقة بالحريات النقابية والاتفاقية 102 المتعلقة بالضمان الاجتماعي، والاتفاقية 141 المتعلقة بتنظيمات العمال الزراعيين"...
كما أعطت الدولة أوامرها للمؤسسات العمومية وللقطاع الخاص بالنسج على منوال القطاع العمومي؛ وتناست الدولة إلى حين قانون مالية 2011 (المصادق عليه في دجنبر 2010) الذي لم يقرر أي زيادات في الأجور، بله أن تصل إلى زيادات من هذا الحجم، كما تجاهل "المخزن الاقتصادي" إكراهات كانت في الأمس القريب عقبات كالجبال: التضخم وقيمة العملة، ثقل صندوق المقاصة، وثقل التحملات الاجتماعية على المالية العمومية...


[1]  أنظر يوميات الحركة النقابية (كتاب حوليات العمل النقابي).
[2]  بتاريخ 9 يناير 2011 بمناسبة انعقاد المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
[3]  بيان المجلس الوطني للكدش بتاريخ 10 فبراير 2011 أنظره في الملحق التوثيقي (كتاب حوليات العمل النقابي).
[4]  أنظر يوميات الحركة النقابية (كتاب حوليات العمل النقابي).

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟