تقاعد التقاعد


يحمل التصريح الصحافي الأخير للمدير العام للمكتب الوطني للكهرباء عقب المجلس الإداري أكثر من دلالة، لعلّ أوضحها انطلاق العَدِّ العَكسي "لإصلاح" قطاع الكهرباء بالمغرب وذلك عبر الإستراتجية المُعلَن عن بعض خيوطها: إتمام المفاوضات فيما يخص إعادة الهيكلة المالية للمكتب، تغيير نظام التقاعد و تحويل المكتب الوطني للكهرباء إلى شركة مجهولة. أما المجهول الآخر في القصة فهي بقية الخيوط التي لم تشأ القيادة المقرِّرة في مصير القطاع كشفها أو حتى الانتظار إلى حين استكمال المشهد السياسي.
لماذا تتم المصادقة على المخطط العام وتسريبه للإعلام؟ في هذا الوقت المتسم بفراغ تشريعي بين مجلس نواب انتهت ولايته وآخر لم يبدأ بعد في تشكيل لجانه، وفراغ تنظيمي لعدم تشكل الحكومة الجديدة، وفراغ شعبي لانشغال الرأي العام المثقف منه بانتظارات الراهن السياسي، أما المستضعف منه فَشُغِلَ بمشاكل الضروريات اليومية التي أُشْعِلت فيها نار الغلاء بقدرة قادر في هذا الوقت بالذات.
هذه الفراغات الثلاث تعطي لمن يُدبر ملف القطاع أَرْيَحِيّة كبيرة في التخطيط والتنفيذ دون عناء الرقابة التشريعية أو التنظيمية أو رقابة الرأي العام.
إذا أضفنا لذلك فراغ نقابي في القطاع فإن الخلطة السحرية تكتمل لتُنذِر بالسوء على العاملين في القطاع، عمال وأطر ومجازون في حالة الانتظار لتحقيق طموحاتهم المهنية، هذا حقهم، لكن الإنتظارية كفيلة بتحجيم تأثيرهم إلى حين ، لأن المُنْتَظِرين لا فِعْلَ لهم، وإذا غضبوا على عدم تحقق آمالهم فإن الانتظار يفتح أمامهم باب الأحلام والسكينة، وبذلك تُشَلّ حركتهم في الضغط على الجامعة لتقوم بأدوارها في النضال والدفاع عن مصيرهم.
  
نعود لتقرير المجلس الإداري الأخير، لنكتشف أن عباراته لا تحتمل التأويل، فهي تأكد على أن المكتب يُدَبّر أزمة مالية وأخرى طاقية في نفس الوقت الذي يُفرَض عليه تغيير نظام التقاعد الداخلي إلى "النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد"(RCAR) والذي يفرض على المكتب مبلغا ضخما للدخول في إطار النظام الموحد (Régime standard)، مبلغٌ يَزداد ضخامة كلما تم اختيار نظام خاص أو نظام تكميلي (Régime complémentaire)؛ ولتقريب الفهم أقول: هب أن أحدنا أضطر لشراء حذاء جديد لأن القديم مثقوب أولم يعد صالحا، وعندما دخل لمحل الأحذية وجد أنواعا متفاوتة الجودة والثمن، فماذا يختار إذا كان ما معه من المال محدود وتلزمه احتياجات أخرى؟ سيختار بلا شك الأرخص منها، المهم أن يستر رجليه. وعلى هذا يمكن أن نقيس لنفهم الإشكالات التي يطرحها ملف التقاعد لوحده.
ما يزيد الإشكال تعقيدا، ويفتح باب الشك والتأويل بخصوص الشريك الاجتماعي هي عبارة  إتمام المفاوضات، فالعبارة تأكد أن التفاوض قد قطع أشواطا ينبغي استكمالها، وعلى حسب علمي فإن المكتب الوطني للجامعة لم يحظى بشرف التفاوض مع الإدارة العامة حول هذا الملف. فمع من سيكتمل التفاوض؟
يرجع تاريخ فتح ملف التقاعد في قطاع الكهرباء إلى سبع سنوات، عندما غضب الكاتب العام رحمه الله على وزارة المالية، إذ َنَقل عنه مقرر المجلس الوطني المنعقد بتاريخ 1 يونيو2001 " ثم تطرق(محمد عبد الرزاق) إلى موضوع صندوق التقاعد وكيف كان مستهدفا في الآونة الأخيرة من طرف وزارة المالية التي حاولت جاهدة إدخال تغييرات جدرية على قوانينه إلا أن التصدي الناجح للجامعة وقف سدا منيعا في وجه تلك المحاولات. وكل ذلك راجع إلى المستوى الرفيع الذي يتجلى في التسيير النقابي لجامعتنا، لكن المحاولات لازالت جارية ومتواصلة وما اجتماعات وزارة المالية مع عدد من المؤسسات العمومية إلا دليلا قاطعا على هذه المناورات الدنيئة".انتهى
ماذا تغير منذ 2001 إلى اليوم لتتوب وزارة المالية عن ممارسة نفس المناورات الدنيئة إن لم تكن تقدمت أشواطا في أساليب المناورة؟
الآن حيث لم تعد الجامعة سدا منيعا، ما هي الضمانات التي تحمي مكاسب الكهربائيين؟ لا شيء. إلا أن يتداركنا الله بلطفه ورحمة من عنده.
لا يوجد في يد القيادة الحالية للجامعة سوى نسخة من اتفاقية ووعد شفوي: الاتفاقية الإطار بين المدير السابق للم.و.ك ومدير صندوق الإيداع والتدبير، والتي كما يوحي اسمها في إطار قانون الالتزامات والعقود نوعا من التعاقد غير ملزم لأي طرف مادامت الاتفاقية النهائية لم تُوَقع؛ شيء ثاني في حوزة القيادة الجامعية وَعْدٌ بأن المكاسب سيتم حفظها بعد التفويت، وفي هذا الإطار يحلو للكاتب العام  للجامعة أن يذكر بجملة سمعها من المدير العام:" لا أرضى لنفسي أن يتم التراجع على مكاسب الكهربائيين في عهدي" ، هذا الشعار وإن كان ناقله صادقا فإنه غير كافي إذا كانت النقابة ضعيفة نظرا لقوة المتدخلين في مصير القطاع، ولذلك لا يمكن أن نطلب من المدير العام أن يناضل بدلا عنكم على الجبهة الاجتماعية لأنه يدير مؤسسة عمومية وليست جمعية خيرية.
أمامنا ثلاث نماذج للتفكير وأخذ الدروس، لعل أحسنها ما تقوم به نقابات قطاع الكهرباء في فرنسا منذ صعود سركوزي للرئاسة، ولمن أراد أن يقارن بين تدبيرنا وتدبير غير المسلمين لنفس التحديات لكم أن تتابعوا وسائل الإعلام الفرنسية هذه الأيام إلى يوم 18 أكتوبر موعد الإضراب العام في قطاع الطاقة والسكك الحديدية اعتراضا على طريقة رئيس الجمهورية في إصلاح أنظمة التقاعد الخاصة.
يوجد نموذج ثاني بشركة ليديك التي وعدت الكاتب العام للنقابة بأن المكاسب لن تتغير عند الإحالة على (RCAR)، وقامت النقابة بدور المخدر للعمال، بل ساهمت بمعية إدارة الشركة في طرد 7 أعضاء من جمعية الكرامة لأنهم طالبوا النقابة بضمانات فعلية بخصوص الملف، وللتاريخ نشهد أن المطرودين السبعة وجدوا في الراحل عبد الرزاق السند والمؤطر حتى رجعت لهم بعض حقوقهم، ويشاء ربك أن يكون أول من يصطلي بنار النظام الجديد للتقاعد هو أحد الممثلين النقابيين المقربين من الكاتب العام لنقابة ليديك، ومع ذلك لم يشفع له هذا الأخير في شيء، ولقد جمعني به القدر قبل أيام فوجدته إنسانا مُدَمرا غاضبا على الوضع بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
نموذج أخير وقع بالمكتب الوطني للسكك الحديدية، حيث قام الكاتب العام للنقابة بالتوقيع خِلسة مع الإدارة هو وثلاث أعضاء من مكتبه الوطني قصد تفويت صندوقهم الداخلي إلى (RCAR) ، ولما استفاقت هياكل النقابة وأرادت محاسبتهم قدموا استقالاتهم ثم اختفوا تاركين آلاف العمال لمصيرهم المحتوم، وخلال هذه الشهور تشهد الطلائع الأولى للمتقاعدين بأن (RCAR) طامة كبرى على السككيين، أما المناضلون الأربعة فقد تأكد فيما بعد أنهم التحقوا بنقابة أخرى.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

خواطر على الهامش

التاريخ لا يعيد نفسه

الهجرة النبوية، بأي معنى؟